الدم بالعراق: ما بين الآن.. والمنبع الأول

TT

رمضان إلى وداع، لم تبق سوى أيام من لياليه الأخيرة التي يتصبر فيها الإنسان العربي على ابتلاءاته الكثيرة. أكظم غيظي من إتاحة الفرصة لبائع العراق وحافر بئر مصائبها، لكي يؤدي دور البطل في قفص الاتهام، ذلك الدور الذي لم يفلح في أدائه حين كانت قوات الغزو الأجنبي تقطع العراق كما يقطع السكين قالب الزبد، وهو لاه، «يئب ويغطس» يلوح ويصفق له الخائفون. أكظم غيظي لإتاحة الفرصة له ليهاجم، من يجلس في مكان القاضي، ويتواقح بـ «من أنتم؟» من دون أن يجبر على احترام السلوك، وعدم ازدرائه للمحكمة، ومن دون أن يرد عليه بصلابة: ومن أنت؟ تأدب لأننا مهما كنا، نعبر عن رغبة الانسان العراقي الحاضر والغائب، والموتى في القبور وخارج القبور، نحاكمك وأنت في غير حاجة إلى لعبة المحاكمة، فسجلك معروف للقاصي والداني، وجرائمك المادية والمعنوية أكثر وأكبر من أن تعد وتحصى، وأنت لست رئيساً للعراق، لا الآن ولا الأمس، فأنت المغتصب غير الشرعي وغير الدستوري لمقاليد السلطة والأمور، منذ قتلت زملاءك الكذا والعشرين غدراً وغيلة ومن دون محاكمة أو فرصة لصبغ الشعر والوجه والقلب. بأي حق تتباجح بقولك «أنا رئيس العراق»؟ من انتخبك؟ ومن صعدك؟ من أنت؟

لعبت دور «أبو طير» على أكمل وجه يمكن أن يكون عليه وجه السفاح الدموي عاشق الفساد والإفساد، المتلذذ بإهدار كرامة الأعزاء وإهانة الضعفاء. تقول ما بني على باطل فهو باطل، والله إنها لحكمة تخرج من فم من اعتمد الباطل وجعله دستوره وقانونه يسود به ويسّيد به أعوانه، الذين نشطوا معه في إعلاء كلمة الباطل على أرض العراق وأهل العراق وتاريخ العراق، حتى جأر الحق بنداءات الاستغاثة: «اشتروني يا مسلمين.. اشتروني يا عرب!» وكان النداء لمستمعين والقلب في صمم.

العراق الآن في مصائب، نعم، لكن من الذي أودى به إلى كل هذه الحمم والزلازل والأعاصير وكسوف الشمس وخسوف القمر؟

رجاء لا تقلبوا صفحة صدام حسين، فهي ليست صفحة، إنها مجلدات لم يعف عليها الزمن ولن تمر أبداً مرور الكرام.

صدام لم يهدم لي بيتاً، ولم يقتل لي ابنا يافعاً ملت إلى عنقه أقبل مكان ذبحه، وهو في درج من أدراج مشرحة، ولم أرغم على دفع ثمن رصاصة قتلت لي عزيزاً، ليس بيني وبينه ثأر شخصي، لكن بيني وبينه مكتبة تحوي كتباً امتلأت بصور ضحاياه من علماء السنة والشيعة وحكماء الصابئة وقساوسة الكنائس، تركمان وأكراد وعرب وخلافه. بيني وبينه وجع القلب الذي صار مخزناً لآهات مكتومة تكدست ولم تتمكن يوماً من باب خروج نحو فضائية اعلامية تقول لها: أوراق الشجر الزاهية تخفي فوهات الدمار والخراب والذبح وتكسير العظام وسحب الروح والعزة.

صدام حسين ليس تاريخاً انتهى يا سادة، إنه الإثم والذنب والخبث الضارب أطنابه إلى مدى لا يمكن لأحد، حتى الآن، أن يتكهن بنهايته.

كل هذا الدم بالعراق الآن غير مقطوع عن منبعه الأول الذي شقه وأجراه هذا الذي ما زال يتصور، بجنون عظمته، إنه رئيس العراق.

أوقفوا تمثيلية البطولة الزنخة هذه، والزموا المجرمين بالأدب المفروض عليهم داخل قفص الاتهام، ولا تأخذكم بهم رأفة في دين الله، الذي هو: حق الإنسان في القصاص العادل.