موريتانيا مدخلا : المشهد السياسي العربي الجديد

TT

عندما حدث التغيير الذي أطاح بالرئيس الموريتاني السابق ولد الطايع في 3 آب (أغسطس)، تذبذب المراقبون في وصف الحركة التي قام بها الجيش لقلب الحكم. فلا هي بالانقلاب العسكري التقليدي، المألوف في موريتانيا وغيرها من البلدان العربية والإفريقية، باعتباره لم ينقلب على الشرعية الدستورية ولم يعلق الحريات العامة، ولم يكن الهدف منه افتكاك السلطة، بل تصويب المسار الديمقراطي المتعطل وإخراج البلاد من أزمة سياسية خانقة. وقد واجهت هذه الحقيقة الأطراف والمنظمات الدولية الرافضة من حيث المبدأ التعامل مع الأنظمة الانقلابية، فانتهت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمنظمتان الافريقية والفرانكفونية، إلى التعامل مع حكام نواكشوط الجدد ودعم المشروع الإصلاحي الذي طرحوه، بعد برهة إدانة وتردد.

فانقلاب 3 آب (أغسطس) هو أبعد ما يكون من حادثة شاذة محدودة بالمجال الموريتاني الضيق، كما نظر إليها البعض، بل هو أحد مؤشرات التحولات البنيوية التي يشهدها الحقل السياسي العربي، يضاف إلى مؤشرات عديدة، نذكر اثنين منها باقتضاب.

أما الأول منهما فهو عملية الإصلاح التي تمت في بعض البلدان، في ظرفية انتقال سلس للسلطة، خصوصا في الدول ذات الأنظمة الملكية، ومثالها الحالة المغربية. فلقد استطاع الملك الشاب محمد السادس دفع وتيرة الإصلاح التي انطلقت مع سلفه والده الملك الراحل الحسن الثاني في آخر سنوات حكمة.

ومكنت هذه التجربة من اختبار نموذج «التناوب التوافقي» من خلال صفقة معقدة وناجحة بين القصر والقوى السياسية الرئيسة، وفي مقدمتها المعارضة اليسارية السابقة. وطالت ديناميكية الإصلاح الملفات الاجتماعية والثقافية الأكثر إشكالية وحساسية، كما سمحت باحتواء آثار وذيول الصراعات الملتهبة بين الدولة والفرقاء السياسيين خلال الستينات والسبعينات. وقد تمت إصلاحات مماثلة من خلفيات مغايرة في البحرين منذ اعتلاء الملك الجديد عرش والده، وحدثت إرهاصات ملموسة في الاتجاه نفسه في بلدان أخرى.

أما المؤشر الثاني، فيتصل بالأنماط الجديدة من المقاومة التي بلورتها المنظمات الأهلية بأدوارها السياسية الجديدة للخروج من حالة الاحتقان وانسداد سبل التغيير والتناوب السلمي على السلطة، في مرحلة تراجع حضور وأداء التشكيلات الحزبية والقوى السياسية التقليدية.

ويتعلق الأمر هنا بنماذج جديدة من تنظيمات المجتمع المدني، يتجاوز نشاطها العمل الخيري والإطار الجمعياتي والثقافي، ويتمحور حول كسر طوق التسلط وتمرير خيار الإصلاح السياسي الشامل. ومع أن هذه الديناميكية لم تتحول إلى تيار شعبي جارف، إلا أن طابعها النخبوي وزخمها الإعلامي الكثيف وصلاتها الخارجية، شكلت عوامل دافعة لخطها الإصلاحي.

وقد آتت هذه الديناميكية أكلها في لبنان بعد اغتيال الرئيس الحريري، كما أثبتت فاعليتها في مصر التي عرفت أول انتخابات رئاسية تعددية في تاريخها.

يتعلق الأمر إذن بآليات تغيير جديدة تنم عن تحولات جوهرية في الحقل السياسي العربي، سواء وجهنا النظر لدور المؤسسة العسكرية أو تنظيمات المجتمع المدني في عملية التغيير.

ويتعين في هذا السياق أن نشير إلى خاصيتين بارزتين في الديناميكية الراهنة على اختلاف ساحات انطباقها، هما من جهة تركز مشروع التغيير في مفهوم الإصلاح الذي أصبح هو الإطار الايديولوجي والنظري لمطالب التحول، ومن جهة أخرى ارتباط هذه الديناميكية بالعامل الخارجي أي الضغط الدولي المتنامي من أجل تطبيع الوضع السياسي في المنطقة العربية التي تقدم بصفتها استثناء في زمن انتشار الديمقراطية في العالم الثالث.

فلم يعد بمقدور الأنظمة العربية التذرع بشعارات السيادة والتحرر للوقوف أمام الضغوط الخارجية، مما يوفر لتيار التغيير هامش حركة واسعا.

وقد تجذر هذا الاتجاه بعد حرب العراق الأخيرة التي أحدثت هزة كبرى في المنطقة.

بيد أن هذه الديناميكية تصطدم بجملة عوائق أساسية أبرزها ثلاثة :

* أولها : ضبابية وهشاشة الإطار الفكري لمشروع التغيير الذي لا يستند لأرضية نظرية صلبة، كما كان الشأن في الثورات الأوروبية الحديثة التي شكلت تجسيدا سياسيا لتراث الأنوار بمفاهيمه وقيمه الفلسفية والاجتماعية.

صحيح أن الفكر العربي قد طور في السنوات الأخيرة أدواته النظرية، كما أن المسألة الديمقراطية نالت حظا واسعا من التأصيل النظري والبحثي (ننوه هنا بجهود مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت في هذا المجال)، إلا أن الثغرة الفكرية لا تزال قائمة في مستوى تشبع المجال العام بهذه المفاهيم الديمقراطية في أبعادها الثقافية والمجتمعية الواسعة.

* ثانيها غياب الوسائط السياسية الفاعلة لاحتضان مشروع التغيير من قوى وتشكيلات وأحزاب. فمن المعروف أن وضع الأحزاب السياسية العربية يبعث على القلق والحسرة، وهي في الغالب هياكل جامدة وعاجزة، مما يفسر لجوء المجتمع المدني إلى الدور السياسي الذي ليس له في المنطلق والغاية. فالمفارقة القائمة هنا هي تصدر جمعيات حقوق الإنسان والروابط الثقافية والتنموية لدور التغيير السياسي المنوط عادة بالأحزاب والتنظيمات السياسية.

* ثالثها لئن كان العامل الخارجي مساعدا في دفع مشروع التغيير نتيجة للعوامل الاستراتيجية المذكورة آنفا، إلا أن تعقيدات الوضع الإقليمي وطبيعة الحضور الأميركي في المنطقة بما واكبه من فظائع في العراق ودعم لا محدود للعدوان الإسرائيلي قد حدت من فاعلية هذه الورقة الخارجية وحكمت على قوى التغيير بالاحتياط في تعاملها مع القوى الدولية تحسبا للاتهامات الرائجة بالعمالة للأجنبي، وتخوفا من أن تتحول إلى أدوات بيد هذه القوى في أجندتها الإقليمية.