دلالات أحداث الإسكندرية الطائفية: الإصلاح السياسي هو الحل

TT

تتخطى الدلالات الخطيرة للأحداث الطائفية التي شهدتها مدينة الإسكندرية بين الثأمن عشر والثاني والعشرين من شهر أكتوبر الحالي، منطق التعامل الاختزالي القائم على توجيه إصبع الاتهام إلى أطراف بعينها في الساحة السياسية والإعلامية المصرية، وكذلك أسلوب تضميد الجراح وتطييب الخواطر من خلال إعادة إنتاج عموميات خطاب الوحدة الوطنية النخبوي. ينبغي علينا بدايةً، وبعيداً عن المروج له حول خلفيات وتفاصيل المواجهات حول كنيسة مار جرجس بمنطقة محرم بك، أن ندرك واقع تأجج المشاعر الدينية الاستبعادية الرافضة للآخر المسيحي أو المسلم في الشارع المصري، وقابليتها للاشتعال السريع والعنيف في سياقات مختلفة. أما أسباب ذلك فهي بكل تأكيد تعود من جهة إلى الطبيعة المركبة للخطاب الديني الرسمي وغير الرسمي، المترتبة على تداخل مساحات التسامح مع الآخر، والاستعلاء عليه بادعاء احتكار الحقيقة المطلقة، ومن جهة أخرى إلى الهيمنة المتصاعدة لقضايا ورموز ومنتجي هذا الخطاب من مؤسسات وأفراد على المجال العام في مصر منذ سبعينيات القرن الماضي.

عندما يشغل حديث الدين المساحة الأكبر من اهتمامات المواطن المصري ـ مسيحي ومسلم ـ ويستحيل الإطار التفسيري الرئيسي لواقعه المعيش، في ظل تراجع شامل لمنظومات القيم العلمانية، تتراجع تدريجياً الأهمية الأخلاقية والمجتمعية لإدارة العلاقة مع الآخر الديني على نحو يحترم التعددية، ويستند إلى المشترك الوطني والإنساني. من يتأمل في تحولات مصر في العقود الماضية يرى صيرورة انتقال مرعبة في المجال العام من إعلاء قيمة التعايش المدني بين المسيحيين والمسلمين كمواطنين، مروراً بحالة ممتدة من قبول وجود الآخر على مضض، ثم انتهاء باستبعاده بصياغات متعددة تراوح بين تقليص نقاط التفاعل معه في الحياة اليومية، واعتزاله من خلال بناء مؤسسات مجتمعية بديلة، تعتمد نهج الفصل خاصة في مجال المنظومة التعليمية وشبكات الخدمات. على نقيض العديد من الأصوات التي ارتفعت في الآونة الأخيرة مطالبة بنشر القراءات الدينية المتسامحة مع الآخر، واستخدامها في مواجهة المنطق الاستبعادي، لن يكون الخروج من هذه الدائرة الشيطانية إلا باستعادة التوازن بين الديني الفاصل والمدني الجامع، في المجال العام بصورة تعيد تفعيل ذاكرة الجماعة الوطنية الواحدة وتؤطر لها من جديد في الواقع الراهن.

إلا أن المعضلة التي تعانيها مصر اليوم هي غياب الإرادة السياسية، القادرة على الدفع بجدية باتجاه مثل هذا التغيير وتحمل مخاطره. فقدت الدولة منذ لحظة زمنية ليست بالقريبة رسالتها القيمية، واستكانت إلى إدارة شؤون المجتمع والمواطنين، على نحو يروم في المقام الأول الحفاظ على بقائها بأقل خسائر ممكنة. لم يرتب ذلك في المجال العام مجرد إحكام قبضة الدولة على مساحات الفعل السياسي، واختزالها رابطة المواطنة في علاقة أمنية بين الحاكم والفرد المجبر على طاعته أو توقع سحقه إن تمرد، بل عني منذ السبعينيات تراجع دورها الاجتماعي والثقافي وألقى بها إلى غياهب أزمة شرعية دائمة التجدد، أنتجت ثنائية استمرار السلطوية السياسية والتراجع المجتمعي للدولة اختلالات خطيرة في الواقع المصري أحسنت القوى الدينية، مسيحية ومسلمة على حد السواء، استغلالها لغزو المجال العام وطرح ذاتها كبديل لمؤسسات الدولة. ثم حالت السلطوية دون تمكين الفاعلين السياسيين المدنيين منافسة الدينيين، بعد أن حجمت من زخم الفريق الأول وتسامحت مع الثاني لحاجتها له كمصدر لتأمين حد أدنى من الرضاء الشعبي. وهنا تحديداً أصل الداء في الحالة المصرية حينما تقارن بنماذج مجتمعية أخرى أكثر توازناً في الشرق أو الغرب، يمثل الدين في سياقاتها عنصراً فاعلاً في المجال العام، دون الاستئثار بالهيمنة عليه، وتحتفظ الدولة بها بمصداقيتها المرتبطة بالقدرة على تخطي الديني الخاص إلى المدني العام.

وقناعتي أن الخطوة الأولى، وليست الوحيدة، لاستعادة توازن مصر وقيمة التعايش المشترك بين عنصري المجتمع المسيحي والمسلم، إنما تتمثل في إنجاز انفتاح سياسي حقيقي يخفف من القبضة السلطوية، ويسمح بتواجد ونمو القوى المدنية بجانب الدينية، على نحو يؤسس لتعددية فعلية وبيئة تنافسية في المجال العام، خيطها الناظم مبدأ المواطنة الجامعة. بعبارة بديلة، ليس المطلوب مجرد إصلاح الرؤى الدينية تجاه الآخر، أو اتباع مؤسسات الدولة لسياسات حيادية تجاه المسيحيين والمسلمين والتعقب الأمني للعناصر المتطرفة، إنما قبل كل شيء أن تكمل الدولة تراجعها عن سابق عهد الهيمنة على المجتمع، بالجلاء عن بعض مواقع الفعل السياسي، كما قبلت راضية في العقود الثلاثة الماضية إخلاء مساحات الاجتماعي والثقافي بل والاقتصادي.

يستند الدفع بأولوية الإصلاح السياسي في هذا الصدد إلى ثلاث حقائق مترابطة.

أولاً، لا رغبة ولا قبل للدولة المصرية في اللحظة الراهنة على الحد من هيمنة وتوغل الخطاب الديني في المجال العام بمفردها. أولئك المولعون بالبكاء على أطلال نموذج دولة الستينيات الناصرية التي تسلطت على المجتمع باسم مشروع حداثي ويحنون إلى إحياء توجهاتها العلمانية، يتناسون أنها كانت سارعت إلى المساومة على مشروعها هذا في أعقاب أول أزمة فعلية تعرضت مسيرتها (1967)، واستبدلت علمانيتها المزعومة باستغلال متنام للدين في الشؤون السياسية لم يتراجع منذ يومها. ولنتأمل في انتخابات مصر الرئاسية في سبتمبر الماضي ومواقف رموز المؤسسات الدينية الرسمية لنتأكد من عمق التداخل بين الطرفين.

ثانياً، يشكل انفتاح السياسة وتنوع الأطراف المشاركة بها في مدرسة المجتمع الأهم لتعلم إدارة الاختلاف، في سياق ظل نهج تفاوضي سلمي. أثبتت تجارب الماضي في مصر أن إلغاء تعددية الحياة السياسية أفقد قوى وفعاليات المجتمع، مدنية ودينية، القدرة على صياغة رؤى تصالحية وتطوير استراتيجيات براجماتية، تختلف مضامينها وأهدافها المرجوة إلا أنها تروم في نهاية الأمر الدفاع عن الصالح العام.

ثالثاً، لا معنى فعلي لحديث إصلاح الخطاب الديني بدون إخراج منتجيه الرسميين وغير الرسميين من تشرنقهم بعيداً عن السياسة، والزج بهم إلى مسالكها الوعرة، لإدراك عمق المسافة الفاصلة بين تصوراتهم الآيديولوجية وتحديات الحفاظ على تماسك الجماعة الوطنية المصرية.

هذه هي مفاتيح الحل والإصلاح. أما فقاعات الوحدة الوطنية الاحتفالية من موائد إفطار رمضانية مشتركة وبيانات جميلة الصياغة صادرة عن رجال الدين المسيحي والإسلامي، تحض على التسامح والتآخي فتظل بعيدة كل البعد عن حركة المجتمع الفعلية، ونبض الشارع الذي تغير كثيراً في السنوات الماضية.

* كاتب مصري بمؤسسة

كارنيجي للسلام العالمي ـ واشنطن