درس أميركي للعرب في نزاهة القضاء

TT

تلتقط محطات الرصد والإنصات الإلكترونية واقمار التجسس الاميركية من المعلومات والمكالمات الهاتفية يوميا ما يكفي لملء، مكتبة الكونغرس الشهيرة. ويعمل في فرز وتوثيق (ارشفة) هذه المعلومات 36 ألف موظف.

وهكذا، فإذا كنت تشكو من أن حِماك (حماتك) تنغص عليك حياتك الزوجية، بمكالماتها الهاتفية لزوجتك، فبإمكانك الذهاب الى المحقق ميلس، يستعير ميلس ملف حماتك من أميركا. يقدم تقريرا بحماتك الى المجلس الأمن، سيصدر مجلس الأمن قرارا بفرض عقوبات اقتصادية على حماتك، ثم يقدمها الى محكمة دولية بتهمة «التآمر» على حياتك. اذا لم تستخدم روسيا والصين حق النقض (الفيتو) ضد القرار، فحماتك راحت في «ستين داهية»، على رأي «مستر إكس» الوارد ذكره في تقرير ميلس ضد السوريين.

لويس ليبي كبير رجال عرَّاب البيت الأبيض ديك تشيني ذهب هو أيضا في «ستين داهية». محقق آخر اسمه باتريك فيتزجيرالد حقق في شكوى المخابرات الأميركية ضد «مافيا» البيت الأبيض، متهمة اياها بافشاء اسم عميلة من عميلاتها، لأن زوجها السفير السابق انتقد بشدة خطط بوش لشن الحرب على العراق.

لا أدري ما اذا كان المحقق فيتزجيرالد استعان بتسجيلات الـ «سي. آي. إيه» لمكالمات ليبي وتشيني. المهم ان المحقق اصدر تقريره منذ أيام متهما ليبي. استقال ليبي فورا، وخرج من البيت الابيض. اذا ثبتت التهمة عليه، فهو معرض لحكم بالسجن ثلاثين سنة، وبغرامة 1.25 مليون دولار. المحقق الآن يعكف على دراسة ملف كارل روف نائب مدير البيت الأبيض واحد كبار مستشاري بوش. وقد حقق بهذا الشأن مع الرئيس الاميركي نفسه ونائبه تشيني. وليس مستبعدا ان يصاب روف بستين داهية من نوع الدواهي التي اصابت ليبي.

أروي هذه التفاصيل، لأقول ان «ثقافة» العداء لكل ما هو أميركي في الشارع والتلفزيون عندنا، يجب أن لا تحجب عن عيون العرب وعقولهم حقيقة أميركية مشرفة، حقيقة وجود قضاء قوي ونزيه. استقلالية القضاء احدى الركائز الضخمة التي تقوم عليها الديمقراطية الغربية، بحيث تستطيع ان تجلب الى المحكمة أحد كبار معاوني الرئيس ونائبه، بتهمة عرقلة العدالة، واصدار بيانات مغلوطة، والادلاء بشهادة زور. بل يستطيع التحقيق أن يصل الى الرئيس نفسه، كما حدث لنيكسون وكلينتون.

أخيرا، لم يعد السوريون ينفون «على عماها» تهمة التورط في قضية الحريري. وأخيرا، شكل الرئيس بشار لجنة تحقيق. كل ما أتمناه ان تحقق اللجنة فعلا، وأن لا يكون تحقيقها كتحقيق المحقق العدلي الفصيح الذي دخل مكتب غازي كنعان بعد نقل جثته، ثم خرج كما دخل، ليعلن أن التحقيق قد انتهى، وأن ملف وزير الداخلية «المنتحر» قد أغلق!

أود أن أحذر من أن الهزائم المريرة التي اصيبت بها ادارة بوش في الداخل والخارج، وفي مقدمتها تراجع شعبية الحرب، قد تحدو بها الى افتعال أزمات دولية كبيرة لصرف الاميركيين عن الاهتمام بنشر غسيل البيت الأبيض. ومع اعتذاري لسعد الحريري، أعود فأقول إن نقل قضية والده الراحل من نزاهة الساحة القضائية الى الفضاء السياسي المشبع بأغراض وأهداف دول كبرى، يجعل منها «قميص عثمان» في يد إدارة أميركية لا تتمتع بأخلاقية نزيهة في التعامل مع العرب وقضاياهم.

أقدر كل التقدير عاطفة ابن مكلوم وفيٍّ لأب كبير تعرض لغدر لئيم لا يستحقه. لكن أخشى أن يكون حرصه على ان تبقى قضية والده حية الى ان يقتصّ القضاء من المجرمين، هو الذي يدفع بها الى مهاوي سياسات دولية قد تعرض المنطقة كلها، بما فيها لبنان، وليس سورية فحسب، الى اضطرابات وفوضى قد تصل الى حروب أهلية.

لعل سعد الحريري قد تلقى نصيحة بهذا الشأن من أب كبير ومواسٍ وعارف كالرئيس مبارك الذي استقبله أخيرا في القاهرة. ولعل وجود سعد في بلده الآخر، السعودية، مناسبة ليتلقى نصيحة مماثلة بالتهدئة هو ورئيس الحكومة السنيورة، من قيادة سياسية حكيمة يتساوى عندها ألمها ازاء الأسلوب اللاأخلاقي في تصفية الحريري الأب، مع خشيتها على المشرق العربي، من أن ينحدر الى عراق آخر لا يعاني من الاحتلال والحرب الأهلية فحسب، وانما يواجه أيضا خطر محو وجهه العربي.

النصيحة ذاتها يمكن توجيهها الى نظام بشار. فهو يشكو من تسييس تقرير ميلس، في الوقت الذي يبالغ هو في تسييس قضية الحريري، بدفعها الى الشارع السوري. لقد شكوت هنا من بذاءات اللافتات والشعارات التي أطلقت ضد سورية والعرب في الشارع اللبناني، بحيث أثارت غضب وليد جنبلاط وغيرته العربية. وها أنا اليوم أكتفي بسؤال الرئيس بشار الذي تربى في المدرسة السورية على الوفاء للعروبة: لمصلحة من يجري تحريض شعب شقيق في الشارع ضد شعب شقيق؟!

تحركت إيران بسرعة لنجدة سورية. لا تفسير لتصريحات الرئيس الايراني الجديد العنترية ضد اسرائيل، سوى لتخفيف الهجمة الأميركية على نظام بشار. من البديهي أن ينضم «حزب الله» اللبناني تلقائيا الى التحرك الايراني، لكن الشيخ حسن نصر الله يعرف كيف يتكلم أكثر من الرئيس أحمدي نجاد الذي يبدو أنه حديث العهد بلغة الديبلوماسية التي من المفروض أن تسعف السوري «الملهوف» لا أن تصيبه بعطب أكبر.

الشيخ مقتنع تماما عندما يتهم أميركا بمحاولة زعزعة استقرار الشرق الأوسط بهجمتها على سورية، وهو مقنع تماما عندما يقول إن الغرب يحاول تجريد العرب من أي سلاح لمقاومة إسرائيل. لكن الشيخ كأنه يقول إن سلاحه الذي يفرضه على لبنان هو لحماية الشيعة من اسرائيل. ما رأي الشيخ إذا حمل المسيحيون سلاحا مماثلا لحماية أنفسهم من سلاح الشيعة، لا سيما بعد انسحاب السوريين الذين كانوا يحمون بالسلاح سلام لبنان من سلاح اللبنانيين؟

السياسة في اللعبة الديمقراطية أكثر فاعلية وَمَضاء من السلاح. كان الشيخ نصر الله داهية وماهرا في توزير حزبه في حكومة السنيورة. سياسته لا سلاحه هو الذي يفرض عليها سياسة متوازنة. وهو الذي «يفرمل» سلاحها كي لا تستعمله ضد السلاح الفلسطيني الفالت خارج المخيمات.

مع ذلك، يتعين على أحمد جبريل أن يفهم أن المتغيرات في لبنان تفرض سحب سلاحه، غير القادر أصلا على استخدامه ضد اسرائيل، إما الى داخل المخيمات، على الأقل، وإما الى داخل حاميته وحليفته سورية. جبريل يقول ان نزع سلاحه «مؤامرة». اسأل جبريل: هل سورية «تتآمر» على الفلسطينيين وعليه، عندما لا يسمح أمنها للسلاح الفلسطيني بالخروج حتى إلى خارج أبواب مكاتب الفلسطينيين في مخيماتهم السورية؟

على أية حال، أقول إن إيران واسرائيل دشنتا معركة الضفة الغربية: إيران بتحريكها منظمة «الجهاد» لتخفيف العبء عن سورية. واسرائيل في مواصلتها استيطان الضفة وتقطيع أوصالها، والاستمرار في صيد المقاومين الفلسطينيين في جنين وطولكرم.

الضحية هذه المرة ليس النظام السوري، إنما نظام محمود عباس الذي يبدو انه بلا نظام، وربما لن يعيش، بعد طول العمر، لرؤية الدولة الفلسطينية، كما أفهمَهُ بوش وشالوم. مسكين عباس! لا هو قادر على ضبط المسلحين في غزة، ولا هو قادر على ردع الاسرائيليين في الضفة.