مَنْ الذي محا فلسطين من الخريطة..

TT

الكلمات التي أطلقت في طهران متعلقة بالصهيونية في الأسبوع الماضي أقامت الدنيا ولم تقعدها، لكن الصواريخ التي أطلقت على غزة وفتكت بشبابها اعتبرت أمرا عاديا، ولم تحرك ساكنا في الساحة الدولية، لقد استنفرت عواصم الدنيا لان الرئيس الإيراني تحدث عن القضاء على الكيان الصهيوني في مؤتمر عام، ولكن العواصم ذاتها أغمضت أعينها تماما عن عملية محو فلسطين من الخريطة وابتلاع الجغرافيا فيها، بعد اقتلاع اصلها وفرعها وتاريخها وثقافتها، ومن ثم اغتيال ماضيها وحاضرها ومستقبلها.

لست هنا في وارد الدفاع عما قاله الدكتور أحمدي نجاد، لكني معني أكثر بالمفارقة الفاحشة في المشهد، الأمر الذي يفضح المدى العبثي الذي وصلنا إليه وبمقتضاه استبيح الدم الفلسطيني إلى أبعد مدى، وأحيط كل ما يتعلق بإسرائيل بحصانة تقترب من القدسية وإذ نفهم أن يحدث ذلك في العديد من عواصم الدنيا، إلا أننا لا بد أن نستغربه ونشمئز منه حين تتردد أصداؤه في بعض وسائل الإعلام العربي.

لقد تحدث الدكتور أحمدي نجاد أمام مؤتمر عنوانه «عالم بلا صهيونية» معتبرا أن الصهونية هي مصدر البلاء وأغلب الشرور التي عرفتها المنطقة، وهذا أمر لا يختلف عليه أحد وفي سياق هذا التحليل استشهد بكلام للامام الخميني دعا إلى القضاء على الكيان الصهيوني ومن منطلق ولائه للإمام وتعلقه بفكره فإنه قال ان القضاء على ذلك الكيان سيكون حتميا، وخلص إلى أن إيجاد عالم خال من أميركا وإسرائيل أمر يمكن تحقيقه.

هذا الكلام جرى اصطياده والمبالغة فيه وتعميمه على العالم بحسبانه دعوة إلى محو إسرائيل من الخريطة ورغم أنه تحدث عن عالم خال من الاثنتين أميركا وإسرائيل، إلا أن أميركا أعطت الكلام حجمه الحقيقي، فلم تأخذه على محمل الجد. وبالتالي فإنها لم تكترث به، سقطت الاشارة إليه في حملة التعبئة الإعلامية وسلطت كل الأضواء على إسرائيل وحدها، ربما لكي تكتمل سمات العصر للمشهد، أعني لكي تصبح إسرائيل التي محت فلسطين من الخريطة وما برحت تجتث ما بقي منها حينا بعد حين هي ذاتها التي تطلب من الأمم المتحدة طرد إيران لأن رئيسها تحدث عن محو إسرائيل من الخريطة.

لقد عقدت بالسويد ـ فيما اذكر ـ خلال العام الماضي ندوة ناقشت حال العالم بدون الولايات المتحدة الأميركية، وكان من رأي البعض ان أحوال العالم ربما أصبحت افضل بدونها، في حين إنحاز آخرون إلى الرأي المعاكس، ولم يقل أحد ان الذين تحدثوا عن أفضلية العالم إذا غابت عنه الولايات المتحدة إنما كانوا يدعون إلى محو أميركا من الخريطة.

غير أن الأمر حين يتعلق بإسرائيل لا بد أن يكون المعيار مختلفا ولا بد أن يستثار العالم بأسره حتى لا يمس لها طرف ولا تنتقد لها سياسة ولا تدان لها جريمة، فكل من يتفوه بكلمة في هذا الاتجاه موصوم سلفا بمعاداة السامية، ومعرض لكل ما يخطر على البال من فنون النازية والتأليب والتشهير.

أدري أنه من غير المناسب سياسيا ودبلوماسيا ان يستخدم رئيس دولة اللغة التي تكلم بها الدكتور أحمدي نجاد عن دولة أخرى عضو بالأمم المتحدة، ومن ثم فإن الأمر لم يكن يستحق أكثر من «العتب» الدبلوماسي الذي يسجل التحفظ ثم يتجاوزه، لكن من الواضح أن الدكتور أحمدي نجاد حديث العهد بمنصبه تحدث بلغة حرس الثورة ولم يتمرس بعد على لغة رئيس الدولة، فأفصح عما في خلده الخاص بأكثر مما عبر عن سياسة بلده، وهو ما أوقعه في المحظور الذي ما زالت أصداء استنكاره تتردد في أروقة السياسة الغربية.

فيما جرى الهاء الجميع بزوبعة تصريحات الرئيس الإيراني ومن وراء أستار الغبار والدخان التي سدت بها إسرائيل الأنف، فإن قادتها انهمكوا في أحكام محو فلسطين من الخريطة بالغارات التي لم تتوقف على غزة، بعمليات الاغتيال والاعتقال الذي استهدفت استئصال المقاومة واجتثاث عناصرها وجذورها بهدف القضاء على كل الذين يحلمون بالإبقاء على شيء من فلسطين على الخريطة.

القصة مكررة، فإسرائيل تريد أن تواصل القتل والاعتقال وتجريف الأرض واستكمال بناء سورها الوحشي بينما الفلسطينيون جميعا ممتثلون وراكعون، تريد أن تحول غزة إلى سجن كبير تخرج منه قواتها، ثم تمسك بمفاتيح القطاع وفي الوقت ذاته تستفرد بالضفة لتفعل بها الأفاعيل، فتضم اغلب أراضيها فيما تحاصر الكيانات الفلسطينية إلى معازل تحت رقابتها وسيطرتها، تريد إسرائيل أن تمارس ذلك كله، محتمية باتفاق التهدئة مع فصائل المقاومة، ومستثمرة غفلة بعض العواصم الغربية وموالاة وتواطؤ البعض الآخر.

كان من الطبيعي أن يكون لذلك المسك المخزي صداه في أوساط المقاومة التي التزمت بالتهدئة واشترطت من البداية ان تتم على اساس تبادلي رافضة أن تواصل إسرائيل جرائمها وتطلق يدها فيها، بينما هي مكبلة بالاتفاق الذي تم التوصل اليه في شرم الشيخ خلال شهر فبراير من العام الحالي، لذلك لم يكن غريبا ولا مفاجئا أن ترد المقاومة على الجرائم الإسرائيلية، استطاعت الى ذلك سبيلا وهو ما فعلته حماس بجناحها العسكري «كتائب القسام» تارة وسرايا القدس التابعة لحركة الجهاد الإسلامي تارة أخرى وكتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح تارة ثالثة.

الحملة على اشدها الآن على حركة الجهاد الإسلامي وجناحها «سرايا القدس» بعد عملية «الخضيرة» التي قتل فيها خمسة إسرائيليين وأصيب 38 آخرون، وقد نفذها عنصر من أعضاء الجهاد الإسلامي هو الشهيد حسن أبو زيد وجاءت ردا على قتل الإسرائيليين لقائد سرايا القدس بالضفة لؤي السعدي، ورغم ان منفذ العملية من أبناء قرية قياطية المجاورة لمدينة جنين بالضفة، حيث لا سلطان للسلطة الفلسطينية عليها، فإن إسرائيل انتهزت الفرصة وعملت على ضرب عصفورين بحجر واحد: فمن ناحية ضاعفت ضغطها وابتزازها للسلطة الفلسطينية من خلال اتهامها بأنها لم تفعل شيئا لاجتثاث «الإرهاب» معتبرة أن السلطة مسؤولة عن غزة وعن أمن الإسرائيليين في الضفة التي يفترض أنها خاضعة مباشرة للسلطة الإسرائيلية.

ومن ناحية ثانية قامت بحملة تأديب واجتياح واسعة النطاق، ضربت خلالها غزة بسيل من الصواريخ، دفعت بقوات كبيرة إلى شمال الضفة، حيث اجتاحت مناطق نابلس وطولكرم وجنين وفي تحركاتها تلك فإنها استهدفت نشطاء المقاومة وبالأخص عناصر حركة الجهاد الإسلامي.

لا يقف الأمر عند حدود القمع الإسرائيلي للمقاومة لان السلطة الفلسطينية اصبحت بدورها مكبلة بوقف الإدانة لعملياتها التي هي في حقيقة الأمر مجرد رد على ممارسات العدوان الإسرائيلي الأمر الذي يعني ان هدف القضاء على المقاومة اصبح مقدما على هدف انهاء الاحتلال، خصوصا في غزة التي يراد بها أن تبقى خارج الصراع رغم استمرار التحكم الإسرائيلي في القطاع واستمرار عدوانه وانتهاكاته في الضفة.

ولم يعد سرا ان القضاء على المقاومة في غزة له هدف اخر بعيد المدى ذلك ان التسريبات الصحفية تشير إلى ان إسرائيل تعد لانسحاب شكلي من 40% من الضفة لكي تضم ما تبقى منها وتلك النسبة تمثل الضفة التي يتمركز بها الفلسطينيون بكثافة أعلى، وتم تمزيقها بما يضمن استمرار السيطرة الإسرائيلية عليها وهي تعادل حوالي 2000 كيلومتر مربع من بين 5500 كم هي جملة مساحة الضفة ولتأمين هذه الخطوة ومن ثم اغلاق ملف القضية للتمهيد لمحو فلسطين التاريخية من الخريطة فإن رأس المقاومة يصبح مطلوبا بشدة الآن أكثر من أي وقت مضى.

لا يخلو المشهد من مفارقات اخرى جانبية، فحركة الجهاد اتهمت بالتطرف لانها رفضت المشاركة في الانتخابات وحين قررت حركة حماس ان تشارك فيها فانها رفضت بدورها لاتهامها بالتطرف الامر الذي يعني ان المقاومة مهددة ومتهمة في كل أحوالها ان هي رفضت المشاركة أو قبلت بها، من تلك المفارقات أيضا ان الأطراف العربية التي عملت على التوصل إلى التهدئة، التزمت الصمت إزاء التعنت الإسرائيلي، الأمر الذي يوحي بأنها تعاطت مع التهدئة تحت الضغط الأميركي والإسرائيلي، باعتبارها ملزمة للمقاومة وحدها وليس للإسرائيليين أيضا، المفارقة الثالثة ان فريقا امنيا عربيا ذهب إلى غزة وبقي فيها لرعاية عملية انسحاب القوات الإسرائيلية، وتأهيل أجهزة أمن السلطة، ووجود الوفد هناك رغم أن القصف الإسرائيلي المستمر للقطاع يمثل إحراجا شديدا له، ويثير السؤال التالي: هل ذهب الفريق الأمني لتسهيل الانسحاب أم لشرعية الاحتلال؟ المفارقة الرابعة ان مجموعة الرباعية الدولية وقد أصابها مس التميز لإسرائيل طالبت سورية بطرد حركة الجهاد الإسلامي من أراضيها علما بأن ثقل الحركة الأساسي في الداخل الفلسطيني ومنفذ عملية «الخضيرة» انطلق من قباطيا ولم ينطلق من حماة أو حلب ـ عجبي..!