الدخول إلى الفخ والخروج منه..!

TT

للأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل نظرية تقول أن الرئيس جمال عبد الناصر قد تم استدراجه إلى فخ حرب يونيو 1967، والتي خرجت منها مصر مهزومة جريحة. وبعد سنوات من هذا التحليل كان للأستاذ القدير تحليل آخر يقول بأن الرئيس صدام حسين قد تم استدراجه إلى فخ حرب الكويت التي خرج منها ومعه العراق مهزومة، وبعد فترة ليست طويلة جرى غزوها واحتلالها من قبل تحالف عالمي ضم 34 دولة تقودها الولايات المتحدة. والحقيقة أن بعضا من مفردات هذا التحليل قد جرى تطبيقه من قبل الكاتب الشهير وآخرين على استدراج الدول العربية إلى دخول حرب 1948 والتي كانت الفصل الأول من دخول العرب إلى فخ صراعات كبرى تقودهم في النهاية إلى أوضاع تعيسة.

ومن المتصور أن كثيرا من المحللين بوسعهم استخدام نفس المفردات التحليلية لشرح الكيفية التي تم بها استدراج العقيد معمر القذافي إلى حادثة لوكيربى التي كانت الفصل الأول في سلسلة طويلة من الأحداث أدت في النهاية إلى تغيرات جوهرية في السياسة الليبية. ومن الجائز تماما أن آخرين بوسعهم استخدام نفس أدوات التحليل للتوصل إلى الكيفية التي تم بها استدراج «ثورة الإنقاذ» السودانية والجبهة «الإسلامية» في السودان إلى فخ حرب أهلية طويلة امتدت من الجنوب إلى الغرب السودانى حتى وصلت إلى الشرق ولن نعلم نهاياتها حتى تنتهي العملية السياسية الجارية.

ومناسبة الحديث عن عمليات الاستدراج والدخول في الفخ هو ما جرى ويجري مع سوريا هذه الأيام من قبل العالم الغربى ـ أوروبا والولايات المتحدة في المقدمة ـ والتي يبدو أن القانون العام والخاص بالقابلية للاستدراج إلى الفخاخ ينطبق عليها تماما. فالقانون يقول إن الدول الثورية الأيدلوجية تكون في العادة أكثر قابلية للاستدراج للفخ أكثر من غيرها من الدول العربية العادية أو المحافظة؛ وفي سوريا فإن الدولة لا تزال قائمة على الأيدلوجية البعثية القومية العربية التي تعتبر نفسها معبرة عن كل الأمة العربية ومصالحها. وبعد زوال النظام البعثي في العراق، والانكماش الليبي الايدلوجي من دنيا العروبة إلى دنيا القارة الافريقية إلى الدنيا الليبية، وانشغال الجزائر بأمورها الداخلية، ونهاية الثورة الشعبية الإسلامية في السودان، والتغير في بنية الثورة الفلسطينية من عصر الثائر ياسر عرفات إلى زمن المعتدل محمود عباس، فإن دمشق تبدو وكأنها الحصن الأخير للأيدلوجية الثورية القومية في العالم العربي. صحيح أن دمشق كانت دوما حريصة في تعبيراتها السياسية، كما أنها حافظت على جبهة صامتة فيما تعلق بالصراع مع إسرائيل، إلا أن المستمع إلى الإذاعة السورية والقارىء للصحف الدمشقية مهما كانت اعتباراته الداخلية كان يصل إلى الخارج مؤشرا على حيوية راديكالية تعززها وقائع مادية لم تعد مستحبة في عالم اليوم.

ويقول القانون ان الدولة المستدرجة إلى الفخ كثيرا ما تسيء فهم وتقدير حقيقة توازنات القوى في العالم، فهي تبالغ دوما في تقدير قوتها، كما أنها تقلل دوما من قوة الخصوم، والاهم قدرتهم على اتخاذ قرار المواجهة الكبرى. ومن المؤكد أن عبد الناصر أساء تقدير توازن القوى ـ السياسي والعسكري ـ مع إسرائيل في مناسبة حرب يونيو، ولم يقدر صدام حسين حقيقة التغيرات في النظام العالمي ولا ما أفرزه نظامه السلطوي من ضعف بنيوي في القدرة العراقية، ولا عرف العقيد القذافي أن هناك حدودا في العالم لقبول قيام دولة عربية افريقية صغيرة بمد مصالحها حتى تصل إلى الفلبين شرقا، والهنود الأمريكيين غربا، والثوار الأيرلنديين شمالا، وأعماق افريقيا جنوبا. ولم يعرف نظام البشير/ الترابى الإسلاموى أن هناك حدودا لقبول العالم ـ وقواه العظمى والكبرى ـ لفكرة الثورة الشعبية العالمية الإسلامية التي تجتمع بصورة دورية في مؤتمراتها الثورية مع ثلة محترمة من الإرهابيين الدوليين في الخرطوم. وعلى نفس المنوال لم يعرف النظام السوري أن النظام العالمي تغير، وأن الاتحاد السوفيتي لم يعد له وجود، وأن ما كان ممكنا القيام به في الماضي خلال الثمانينات حينما تم إجلاء القوات الأمريكية مكللة بالعار من بيروت لم يعد متاحا في الحاضر، ومن ثم فإن المداعبة والملاعبة الخشنة في العراق ولبنان لم تكن غير مقبولة فقط، بل وتستحق العقاب كذلك.

ويقول القانون ان الأخطاء الفادحة في حسابات القوى تقود دائما إلى حماقات تاريخية عظمى، فقد كان ممكنا للنظام الناصري أن يطول عمره كما حدث للنظام الكوبي أو الفيتنامي أو حتى الصيني لولا قيامه بإرسال قواته إلى اليمن وإغلاقه لمضيق تيران على خليج العقبة. كما كان ممكنا لنظام صدام حسين الاستمرار في العراق لعمر مديد لولا قيامه بغزو الكويت. وكان ممكنا لنظام البشير/ الترابي الاستمرار كما هو لولا وصول السيدين الإرهابيين كارلوس وأسامة بن لادن إلى الخرطوم. والحقيقة أن تغيير الإدراك والسلوك في الخرطوم وفي طرابلس الليبية وتعاونهما مع القوى الفاعلة في النظام العالمي أعطى للنظام فرصة للبقاء وتجاوز الفخاخ معا. وفي سوريا فإن السير نحو الفخ لم يكن قدرا تدفع سوريا إليه، بل أنها ذهبت إليه مختارة عندما طال وجودها في لبنان أكثر مما ينبغي بعد انتهاء الحرب الأهلية وبعد تغير العالم. والأخطر من الوجود في لبنان كان ممارسة القوة والسلطة فيها، فمع لي كل الأذرع السياسية اللبنانية من أجل التمديد لرئاسة لحود، والتداخل ما بين أجهزة الأمن اللبنانية والسورية كان حريا به ارتكاب أخطاء فاحشة كان من بينها إمكانيات التورط في اغتيال الشهيد رفيق الحريري. وكم كان مدهشا تماما كما ظهر من تقرير ديتليف ميليس كيف أن أجهزة الأمن السورية واللبنانية كانت مخترقة تماما إلى الدرجة التي وصل بها الرجل إلى معلومات محرجة للغاية للدولة السورية كلها.

والفخ ليس قدرا تاريخيا على الدول، فقد خرجت مصر منه بعد قيادة السادات لها وتغييره مسار السياسة المصرية، وخرجت ليبيا منه عندما كانت على استعداد لرفع رأسها من الرمال والتعامل مع العالم كما هو وليس كما تتمناه، كما خرجت السودان من الفخ عندما اعترفت أن السودان بلد من بلدان التعدد الديني والعرقي، كما أن السعودية لم تدخل هذا الفخ أبدا من الأصل وبالتالى وفرت على نفسها عنت الخروج منه. والخطوة الأولى دوما للخروج من الفخ الاعتراف بالوقوع فيه وعدم المكابرة والاستسلام لجماعة الراديكاليين في الفضائيات العربية الراغبين في حالة صراعية ممتدة انتظارا لفجر هناك شكوك قوية على بزوغه إذا كان فجرا على الإطلاق. والخطوة الثانية أن التعامل مع الفخ يكون بالهدوء والعقلانية، أما المظاهرات المليونية الزاعقة فهي تحكم العقدة وتضيق الفخ. والخطوة الثالثة إعادة ترتيب المنزل من الداخل، وعندما تكون العناصر الحاكمة في بلد هم مجموعة أقارب الرئيس ـ مثل حالة السيدين ماهر الأسد أخ الرئيس وعاصف شوكت صهره ـ فإنه على الأرجح سوف يحصل على الولاء ولكنه على الأرجح أيضا لن يحصل على الحقيقة أو الكفاءة. والخطوة الرابعة أن يتخذ القائد السياسى خطوات عظمى تنقل المبادرة من يد الأطراف الأخرى إلى يده. والتفاصيل ليست صعبة على الإدراك!