القاهرة: فئات سرتها إزالة البعث.. وأخرى قومجية حزينة

TT

حاول طه حسين إثارة الشيخ محمد رضا الشبيبي، وزير ورئيس المجمع العلمي العراقي الأسبق، إثناء حضوره مؤتمر مجمع اللغة العربية بالقاهرة، بالقول: «لماذا كان العراقيون دائماً ثائرين لا يستقرون على حال، ولا يرتضون حاكماً؟ فقد قرأت تاريخ العراق منذ الفتح الإسلامي حتى الآن، وقلما وجدت حقبة خالية من الفتن والقلاقل». رد الشبيبي على مفكر مصر بالقول: «أتسمح لي أن أسألك أنا أيضاً؟ لماذا كان المصريون دائماً خانعين خاضعين؟ لقد قرأت تاريخ مصر منذ الفتح الإسلامي وقبله أيضاً، فوجدت المصريين دائماً يسترضون حكامهم مهما جاروا، وطعنوا» (أعلام الأدب في العراق الحديث).

اغتاظ عميد الأدب من الرد غير المتوقع، لكن الحضور من المصريين قالوا له: «الجواب من طبيعة السؤال»! والحقيقة، رغم سمو الشخصيتين، طه والشبيبي، إلا أنه لا العراق كان ثائراً على الدوام، ولا مصر كانت خانعة على الدوام. وإن سكت العراقيون على خمسة قرون تركية عثمانية، منها صفوية إيرانية، فالمصريون وجدوا في محمد علي رائداً لنهضتهم الحديثة بديلاً من العثمانيين، وكثير من البدايات أتت من ديارهم، ولهم أبطالهم الشعبيون والسياسيون. ومثلما ابتلى العراق بالهتافين للأنظمة أبتلى المصريون بهتافيهم، حتى استبدل اسم مصر، وكل شيء سخر من أجل شعار كان السراب بعينه.

ما جرى بين أديبي مصر والعراق كان مادة جدل مع مثقفين مصريين بالقاهرة. وجدت مَنْ أستحسن وجود والٍ دموي على العراق مستل من ظهر الحجاج بن يوسف الثقفي، لأنهم حسب طه حسين أهل فتن وقلاقل. ومنهم مَنْ يرى في طينة العراق حاضنة للحرية والتسامح، ولا يعيبهم التخلص من القسوة ومبطلات التقدم بعون أجنبي. نظر هؤلاء إلى حملة نابليون، واستقلال الألباني محمد علي بنظرة إيجابية، فما كان لمصر أن تكون الأم في أكثر من مجال لو ظلت نافرة من كل أجنبي. وحتى لا يذهب القارئ بعيداً، كانت هذه الفئة مختلطة من أهل اليسار وأهل اليمين، بينهم صحفيون ونقاد فنون، ومَنْ عكر صدام وجودهم بالكويت، ومَنْ كان يتردد ضمن الوفود الثقافية على بغداد إثناء الحرب العراقية الإيرانية، حتى وجدها خيبة من الخيبات.

نخبة مصرية أخرى لا تحب صداماً ولا البعث، لكنها ابتلت بعداء مرضي لأمريكا، كل شيء عندها سببه أمريكا وإسرائيل، إلى درجة أنها أضفت قدسية على الدولتين، وأكسبتهما الخوارق! لكن تخبط أمريكا بأمر العراق، وعجزها عن المسك ببن لادن والزرقاوي، وحماقات إسرائيل المزمنة أثبت العكس، وظهر أن لا أمريكا ولا إسرائيل تملكان الفعل الخارق(كن). ولم تتأخر هذه النخبة من التبشير بفكرة سقوط برجي نيويورك بتنسيق أمريكي، بل يرى رئيس تحرير جريدة مصرية في الزرقاوي أنه عميل أمريكي. فتأمل كم هي هيمنة السطوة الأمريكية على تلك العقول، التي لا تستطيع أن تعترف بعدو لأمريكا إلا أن يكون من صناعتها.

أما الفئة الأبرز بعصابيتها بمصر هي التي يسميها بقية المثقفين المصريين بالقومجية، عدت سقوط البعث كارثة قومية، وأن الاستفتاء على الدستور العراقي فتنة ستحرق العراق، وما محاكمة صدام حسين وأعوانه إلا مهزلة. وصلة بهذه الفئة كشف البعض سراً، قد لا يعرفه البعيد عن القاهرة، وهو افتتاح المطعم (البعثي) بقلب القاهرة، ليكون مكان لقاء وجذب وتسيير الوفود الصحافية والثقافية إلى بغداد، تحت غطاء المؤتمرات القومية، أو المهرجانات الفنية. يمتاز بطعام وشراب فاخرين، وبأسعار رمزية، ومجاناً للخاصة من كُتاب المقالات والقصائد النافعة. لكن بعد سقوط النظام قل زبائن المطعم، وارتفعت أسعاره.

إلى جانب الأحاديث المباشرة تعطي الصحف المصرية، لمختلف الجماعات والأحزاب، تصوراً واضحاً في الموقف إزاء الوضع العراقي. صحف أتت على أخبار الاستفتاء والمحاكمة بالإيجاب، محملة النظام السابق ما حل بالعراق من كوارث، وأن الدستور بوابة فرج سيمر منها العراقيون إلى شاطئ السلامة. صحف أخرى صدرت غاضبة من نجاح الاستفتاء والمحاكمة، وواظب رؤساء تحريرها الاستضافة في قنوات الضد، والتي تدعي النزاهة في ادعائها الوقوف بمنطقة وسطى بين الضحية والجلاد! ورغم علو الصوتين بالقاهرة، المع والضد، إلا أن هناك صحفاً مصرية تناست العراق تماماً، وخصوصاً في أيامه الساخنة: الانتخابات، الاستفتاء، ومحاكمة صدام، وكأن تلك البلاد رفعت من على وجه البسيطة!

كانت أموال النظام العراقي السابق مفسدة للرأي والثقافة، هذا ما أشار إليه أحد المثقفين، وكان ضمن الوفد المصري في الاحتفال بمئوية الجواهري العام ألفين بأربيل والسليمانية. وتعرض مع بقية الوفد إلى اتهامات من قبل القومجية على حد عبارته. بعد خمسة أعوام على اللقاء الأول وجدته بالقاهرة كما هو، يعيش على الكفاف، فلا المعارضة العراقية السابقة ولا النظام العراقي الجديد لديه ما يدفع على مهرجانات تأييد وتحشيد. مثقف مصري آخر، وهو علي عتمان، مات بلندن، وقضى حياته متنقلاً للمبيت بين أصدقائه من الأدباء العراقيين المنفيين من دون أن يسعى إلى حشر نفسه في وفد إلى بغداد، رغم الترغيب الذي مورس عليه.

رؤية مصر وجهاً لوجه غير القراءة عنها، فالقومجية، ليس هم كل مثقفي مصر، فمن قبل لم تمنع تلك الفئة نجيب محفوظ من كتابة رسالة إعجاب إلى أديب عراقي يهودي، وهذا من المحرمات في قاموسها، مثلما لم تمنع التقولات القومجية القديمة طه حسين من تسمية الجواهري بصناجة العرب. وبالنتيجة مهما اختلفت الآراء والمواقف حول العراق تبقى الحاجة لمصر ضرورة، فأول شهيد للدبلوماسية على أرض العراق كان السفير المصري. ومَنْ يدري فلربما نجح المؤتمر المؤمل عقده بشرم الشيخ بين العراقيين باستضافة المصري عمرو موسى، ويضع نهاية لأكذوبة المقاومة، ويكشف عن وجه الإرهاب اللئيم، الذي اشتكت منه مصر بالأقصر وخان الخليلي، وما زال يهددها. يشهد لمصر أنها أم الدنيا بتاريخها ونيلها ومسلتها وأزهرها وأدبها، ولا يزيد موقف نخبتها الواعية من أحوال العراق إلا القرب منها. وقبل أكثر من نصف قرن، وفي محنة سابقة أنشدها الجواهري:

يا مصر إن الرافدين لجذوة لو أن ماءً جذوةً تتسعر

طفحت ضفافهما وتصافقا بالموت ينذر والحياة تبشر