الشاعر السجين

TT

كثير من الذين طالت إقامتهم في السجون لا يريدون أن يبرحوها. لقد اعتادوا على الحياة بين السجناء، وعلى الطعام والشراب والانضباط وسوء الظن بالناس خارج السجون؛ فهم يرون أن «الناس اللي جوّه» أفضل من «الناس اللي برّه» فالجواني أفضل من البراني. وكثيرا ما وقف السجين الذي أطلق سراحه أمام السجن في ذهول كالسمكة التي خرجت من الماء.

بعض السجناء اختار بكامل حريته أن يعود إلى السجن، والماضي الذي اعتاد عليه. وقد نشرت «الشرق الأوسط» أن سجيناً إسبانياً توسل أن يعود إلى السجن الذي أمضى فيه خمسين عاما، فقالوا له من الممكن أن يعينوه عاملا، فرفض لأنه يريد أن يكون سجينا، وكان صعبا عليهم وضعه في السجن بلا ذنب جناه، فارتكب الذنب.

شيء من مثل ذلك وجدته في مدينة بورتو فينو الإيطالية الجميلة، فهناك سجن به كافتيريا، والذي يدير السجن والكافتيريا معاً هو السجين. والسجين شاعر، نظم قصيدة قذف عنيف في أحد الزعماء السياسيين وحوكم، وتقرر سجنه، فتدخل الأدباء والشعراء والساسة للإفراج عنه ـ كما فعل فلاسفة فرنسا وأدباؤها وتظاهروا من أجل الإفراج عن الأديب جان جينيه الذي هو رجل مريض، وهو مصرٌّ على أن يعيش من السرقة. حاولوا معه، لكنهم فشلوا، فقد قرر أن يعيش لصا ويلقى الجزاء الذي يستحقه. وكان الفيلسوف الوجودي جون بول سارتر قد تقدم ليدافع عن حرية الأديب في أن يعيش كما يريد!

قابلت الشاعر الإيطالي السجان السجين، وروى لي حكايته، وأسعدني أن أجلس إليه وأشرب معه، وأدفع الثمن والبقشيش الذي يطلبه ليشكرني في النهاية. هل هو ساخط على كل شيء؟ الجواب: نعم. هل كانت المرأة هي السبب؟ الجواب نعم. هل هي زوجته؟ الجواب: نعم. هل هي المرأة الوحيدة في حياته؟ الجواب: لا. فقد عرف كثيرات وهرب.

وفي كل ليلة يشير إلى أن الوقت حان ويقول: ساعدني، فأجمع معه المقاعد وأواني الزهور وندفعها معاً إلى الكافتيريا ويغلق بابها ويصعد الدرج إلى باب السجن، ويمد يده من الداخل ليحكم سلاسل السجن ويغلق النافذة في تمام الثامنة مساء ليقول: تصبح على خير!