هيكل الحكواتي!

TT

منذ تكريس ظهوره على قناة «الجزيرة» بشكل أسبوعي، أثار الكاتب والصحافي المصري محمد حسنين هيكل الكثير من الجدل. فتجربته الغنية، التي حفلت بها سنوات عمره المديد، تشكل مادة جذابة لشريحة واسعة لا تزال أسيرة مقولات «الماضي الجميل»، الذي يجسد هيكل امتداداً حياً لها، خصوصاً جراء معاصرته الوثيقة لحقبة الزعيم المصري جمال عبد الناصر. أما بالنسبة إلى آخرين فإن مطولات هيكل التلفزيونية هي بمثابة قراءة ذاتية غير نقدية بتاتاً، بل تلعب دوراً تجميلياً حيال أدق مراحل التاريخ العربي الحديث وأكثرها تناقضاً والتباسا.

هذا الجدل ما زال مستمراً، وسبق إطلالة هيكل على «الجزيرة»، لكنه تضاعف بعدها.. إلا أن التساؤل الذي يراودني كلما شاهدت هيكل على الشاشة هو: هل هذا النوع من السرد والتحليل المطول على شاشة التلفزيون، وبصرف النظر عن محتواه السياسي، هو مادة قابلة للحياة والاستمرار في عصر الصورة!

من يتابع الحلقات يلاحظ تطور الجهد التقني المبذول، من حيث تناسق الديكور والإضاءة وزوايا التصوير.. إلا أن اللقطات المقربة ليدي هيكل تعبثان بالقلم أو للأوراق المتناثرة على الطاولة أو حتى بضع الثواني التي تمر لصور تاريخية ترتبط بالحدث الذي يتناوله هيكل أو تعدد الزوايا التصويرية للرجل جالساً يحدثنا، هي في النهاية ليست أكثر من محاولات بصرية حثيثة بغية التخفيف من وطأة وحقيقة أننا حيال مشهد واحد مفاده أن شخصاً واحداً يخاطب الكاميرا (أو الجمهور) قرابة الساعة، وهي في عمر الوقت التلفزيوني بمثابة دهر..

منذ الإعلان الأول عن حلقات هيكل بدا جلياً أن هذه التجربة ستكون مغامرة صحافية على حساب الصورة، وهو أمر يتكرر في معظم شاشاتنا على كل حال.. كان الرهان ربما هو أن يتمكن تاريخ هيكل وكتبه ومقالاته وجاذبيته من تجاوز عقدة الصورة فيتماهى، ربما، المشاهد بخياله مع كلمات الرجل ونبراته وثبات عينيه وبياض شعره وحركة يديه.

لا يبدو أن هذا الرهان قد نجح.

لقد تحول هيكل إلى حكواتي تلفزيوني، في زمن أفل فيه الحكواتيون من الحواري والمقاهي في الحياة فكيف على الشاشة!

أما البعد الآخر الذي لا يقل أهمية، فهو أن هذا النوع من البرامج التلفزيونية ربما يخلو تماماً من أي مساجلة كان يمكن تحقيقها لو تم مثلاً من خلال مقابلة معدة جيداً أو من خلال برنامج توثيقي، يمكن من خلاله تقديم صورة أشمل وأكثر توازناً.

هيكل في برنامجه هو مالك للحقيقة، وعلينا كمشاهدين أن نتقبلها كما يقولها هو، فلا مساحة للسجال أو التساؤل أو الردّ.

وفي النهاية فإن «مع هيكل»، هو صيغة غير مسبوقة بين الإعلام المكتوب والإعلام المرئي، وهي صيغة لم تتمكن من الاستفادة من خصوصيات النموذجين. فالفرق بين التلفزيون والصحيفة أو الكتاب، هو أن التلفزيون يحاول أن يقدم الحدث أو الحكاية أو المعلومة أو الفكرة بصيغة مختلفة.. من يريد أن يعرف ما يقوله هيكل يمكنه أن يقرأه فلماذا يشاهده. فالمشاهدة ينبغي لها أن تضفي بعداً آخر أو زاوية أخرى وهو أمر لم يحدث..

diana@ asharqalawsat.com