العراق: ملامح من أزمة القيادة

TT

تحدث السفير الأميركي في العراق عن افتقار العراق للرجل القوي القادر على اقناع واستقطاب الجميع، حيث لا يرى في العراق «كرزاي« تلتقي عنده الخيارات.

ويعود هذا الغياب لطبيعة النظام الديكتاتوري الذي هيمن على العراق، ولعمله المنظم على تشتيت واضعاف صفوف المعارضة، والى ان النظام الديمقراطي وبما يحمله من تعدد الخيارات والرؤى وما يستتبع ذلك من تعدد الزعامات، الا ان الاسباب الاخطر التي ترد هي تلك البنيوية المتأصلة في طبيعة المجتمع العراقي، وهي تتراوح ما بين طبيعة الشخصية العراقية التي جبلت على عدم الرضا على الحكام، وافتقارها الى الاجماع على اي حاكم في تأريخها، والى واقع الانشطارات المذهبية والاثنية التي يتسم بها المجتمع العراقي، وما عمقته دهور التظالم والاقصاء من تباعد بينها، وجعلت القيادات اسرى لمكوناتها المجتمعية، وايضاً بسبب من ازدواجية الولاء التي تتنازع الفرد العراقي، ما بين ولائه للدولة وما بين ولائه لمرجعيات دينية واخرى قبلية، وهذا ما ادى الى اضعاف المواطنة عنده، وبالتالي عندما تضمحل المواطنة فلا يكون هناك قائد وطني.

سأرد على الاسباب البنيوية كونها الاخطر، حيث اننا اذا ركنا الى تفسيراتها فأن ذلك يجعلنا نفقد الامل في نشوء زعامة وطنية مخترقة لمكونات الشعب العراقي افقياً، ومستقطبةً لحد معقول من الاجماع والرضا الوطني، وسأورد مثلاً من تأريخ العراق المعاصر، بجلب مثال زعامة عبد الكريم قاسم (1958 ـ 1963) والتي أرى كما يرى مؤرخو تلك الحقبة، أنه حظي بأكبر قدر من الرضا والاجماع، لم يقاربه اي زعيم عراقي، وللرد على من سيسارع بالقول انه كان حاكماً دكتاتورياً وشمولياً، فأني سأترك التأييد الذي حظي به اثناء حكمه، وانتقل الى ساعاته الاخيرة في مواجهة انقلابيي شباط، فما زالت الذاكرة العراقية تختزن صور جموع الفقراء والمسحوقين الذين خرجوا بصدورهم للدفاع عن ثورتهم، وملأوا الشوارع في مواجهة الدبابات التي استخدمت الخديعة، في الوقت الذي فضل الزعيم مواجهة قدره على ان يستجيب لنداء الجماهير المطالبة بالسلاح خشية من وقوع الحرب الاهلية،

ليس في وارد مقالتي مدح عبد الكريم الذي وصف بأنه اعطى العراق جمهورية ولم يعطه العراق مكانا لقبره، ولكن للتدليل بأن الحاكم عندما يكون له مشروع وطني ويتفانى بالاخلاص والنزاهة له، فأنه يستطيع ان يخترق المكونات الطائفية والاثنية، اذ ان عبد الكريم الذي كان من عائلة سنية، ولا اقول كان سنياً، اذ انه الوحيد في تأريخ العراق المعاصر الذي لم يظهر انحيازاً او حتى لوناً طائفياً، لهذا استطاع ان يستقطب الجماهير العراقية المضطهدة والفقيرة بكافة مكوناتها، ولأخذ عينة للتدليل على امكانية نجاح القائد الوطني، فإن الكرد الفيليه الذين تعرضوا لثالوث القمع الطائفي والقومي والطبقي، فهم الكرد الشيعة وقفوا للدفاع عن الحاكم العربي السني في وجه الانقلابيين، وبقيت مناطقهم تقاتل لأيام وتعرضوا نتيجة لذلك للتنكيل والاضطهاد والتهجير، بل حتى بعد موته التراجيدي فأنه بقي في المخيال الشعبي الذي صاغ حوله الاساطير.

والفترة نفسها شهدت المد الاكبر للحزب الشيوعي، والذي كان اكثر انتشاراً بين الاوساط الشيعية كونها الاكثر فقراً وانسحاقاً، فقد صدرت آنذاك فتاوى تحرم الانضمام للحزب الشيوعي، لكن لم يلحظ استقالات جماعية منه حيث ان الجماهير غلبت مصالحها الطبقية على الاستجابة لنداءات مرجعياتها، اخلص من ذلك بأن ليس هناك خلل بنيوي يجعل المجتمع العراقي غير قادر على افراز قائد وطني تتلاقى عنده المشتركات، بل ان الخلل يعود بجزء منه الى فشل الطبقة السياسية المتصدية للعمل السياسي على بلورة مشروع وطني، والعمل بجد وإخلاص له، وبقائها اسيرة لثقافة المعارضة.

ان جزءا من ضبابية المشروع الوطني هو في قواه السياسية وفي شعورها بالمديونية الى دول الاقليم، اما بسبب الدعم الذي تتلقاه او تستدرجه، او لاتكائها واستمدادها للقوة من هذا الطرف او ذاك، والبعض الثالث منها يشعر بالمديونية لاحتضان هذه الدولة له او تلك اثناء سنين المنفى والمعارضة، وهنا يحدث الخلط ما بين المديونية الشخصية ومديونية الوطن وفي عدم الادراك بأن الدول التي احتضنت المعارضة دافعها ابتداء العداء للنظام السابق وكورقة ضاغطة عليه.

وهنا يبرز بحدة موضوع العلاقة مع ايران لسعة الطبقة السياسية المحتفظة بعلاقات طيبة معها تعود لايام المعارضة، وللامتداد والتماثل المذهبي بين ايران وجزء من العراق، وكون ثقافة النظام السابق ارتكزت على تعميق العداء لايران ومغلبة وبانتقائية قسرية لمواقف التصادم عبر التأريخ على غيرها. في حين على المسرح الاقليمي والدولي فقد درج النظام على طرح نفسه كمعادل قوة لايران، وهذا ما دفعه لخوض الحرب معها، وظل يوهمه لاحقاً بأن المجتمع الدولي لا يمكن ان يفرط به او يستغني عنه لدوره هذا، والغريب لا بل انه الطبيعي انه قبل اشهر عندما طرحت بعض قوى المقاومة الوارثة لعقلية النظام السابق في رسائل واضحة الدلالة، بأنها لا تقاتل الأميركان بل تريد ان تطهر البلد من النفوذ الايراني وتقاتل اعوانه، كما ان هذه العلاقة حظيت وستحظى بأكبر قدر من الاستخدام والتوظيف للتسقيط السياسي، بل ارادها البعض ان تكون كسيف مسلط وفزاعة على مكون هام وواسع من الشعب العراقي.

ما من شك ان علاقات جيرة مرتكزة على التعاون مطلوبة مع ايران وباقي دول الاقليم، بل لا ضير من استثمار كل المشتركات، ولكن هل من الحكمة السياسية الذهاب ابعد من ذاك؟ في ظل التطلعات الايرانية التي تهدف ان يكون لايران شأن في ادارة وتسيير العملية السياسية، او تلك الطامحة لأن يكون لايران شأن في تحديد مستقبل العراق السياسي، او فيما اذا كانت هناك من مصلحة في مجاراة الخطاب العقائدي الايراني المتشدد، او في ان تكون الساحة العراقية جزءاً من اوراق الضغط الايرانية في علاقاتها الدولية، او جزءاً من تسويات ملفاتها المأزومة، حيث ان المتغيرات الدولية الاخيرة وضعت نهاية لمنطق الدولة الاقليمية المهيمنة.

على الجانب الآخر فإن نفوذاً ايرانياً في العراق سيكون محل تخوف أميركي واوربي واقليمي ووطني، فضلاً عن ان مصلحة العراق تتعارض مع رغبة ايران التي تريد عرقلة المشروع الأميركي المفزع لها، لهذا فأن صاحب المشروع الوطني، هو من يغادر دور التابع الى دور رجل الدولة المغلب لمصالحها والمتخير لانفع تحالفاتها.