استعجل «المثقفون» فأثاروا مراكز القوى!

TT

يستحق الجدل المحتدم في سوريا حول ظاهرة المنابر والحقوق المدنية اهتماما عربيا اكثر، فما يجري في هذه الدولة العربية يجري مثله في دول عربية كثيرة، ولكن همسا وبأشكال اخرى مختلفة، واذا كان المثقفون السوريون وصلوا الى لحظة القطرة التي افاضت الكأس فإنهم في حقيقة الامر استندوا الى الايماءات التي وردت في اول خطاب للرئيس بشار الأسد امام مجلس الشعب والى الايحاءات التي صدرت عن الرئيس الشاب في مناسبات متعددة.

ليس تدخلا في الشؤون السورية الداخلية ان ينتقل الجدل المحتدم في سوريا الى المنطقة العربية كلها، فالحال من بعضه، كما يقال، واذا كان الكلام يدور الآن حول ما يجري في دمشق فإنه سيأتي اليوم الذي سيدور فيه الكلام حول الظاهرة نفسها في دول تظن انها في منأى عن رياح التغيير وانها محاطة بأسوار محصنة.

في سوريا لم نقرأ ولم نسمع ان أياً من الذين انخرطوا في هذه الظاهرة او ايدوها طالب بتغيير النظام. فالمطالبات انصبت وتنصب على ضرورة تطوير هذا النظام بالوسائل الديموقراطية وبالطرق السلمية، والمذكرات والبيانات التي صدرت حتى الآن جميعها تؤكد على ان الهدف ليس الاساءة للعهد السابق وانما الاستجابة لتطلعات العهد الجديد التي اشار اليها الرئيس بشار الأسد في معظم خطبه ولقاءاته الصحافية.

قد يكون هناك من بين الذين انخرطوا في ظاهرة لجان الحقوق المدنية او ايدوها من راودته تجربة احواض صناعة السفن في «غدانسك» على بحر البلطيق حيث قاد ليخ فاونسا النقابات مع بداية عقد الثمانينات لاسقاط نظام الجنرال يارازولسكي وانهاء الشيوعية في بولندا. لكن يمكن الجزم بأن الذين يشكلون العمود الفقري لهذه الظاهرة لم تراودهم هذه الفكرة على الاطلاق، وان هم اعلنوا على رؤوس الاشهاد انهم ضد استمرار حزب البعث بالاستفراد بالسلطة وانهم يريدون ان تكون هناك مساحة للرأي الآخر ولاحزاب فعلية منافسة.

ولعل ما يعزز هذا الاعتقاد ان معظم الذين شكلوا ظاهرة المنابر ولجان الحقوق المدنية كانوا قد ركبوا قطار حزب البعث في يوم من الايام وانهم غادروه في محطات متلاحقة فمعظمهم كان بعثيا في المرحلة الطلابية في عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي ثم انفصل عن هذا الحزب في وقت لاحق. وبعضهم غادر موقعه التنظيمي اما بعد انهيار الوحدة بين سوريا ومصر واما بعد «ثورة» مارس (آذار) عام 1963 أو بعد حركة فبراير (شباط) 1966 أو بعد الحركة «التصحيحية» التي قادها الرئيس الراحل حافظ الأسد في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1970.

وبالطبع فإن هذه الظاهرة لم تقتصر على الذين مروا بحزب البعث وانتسبوا اليه وركبوا قطاره في يوم من الايام، فهناك من كانوا «رفاقا» في الحزب الشيوعي مثل الكاتب ميشيل كيلو والمناضل السياسي رياض الترك، وهناك من انتسبوا تنظيميا وفكريا للفرق «الوحدوية» والتيارات الناصرية، وهناك بعض المستقلين الذين تعلموا في جامعات الغرب وعادوا بأفكار وتصورات «ليبرالية» فوجدوا الفرصة للتعبير عنها بعد ان لمسوا تشجيعا في هذا الاتجاه من خلال ما ورد في تصريحات الرئيس بشار الأسد واحاديثه وخطاباته.

ويمكن القول ان هذه الظاهرة ليست جديدة ولكنها بقيت خلال السنوات الاخيرة محصورة في اوساط معينة وفي دوائر مغلقة وبعدد محدود من «الطلائعيين» الذين كان لديهم الاستعداد للمخاطرة بفقد وظائفهم والمجازفة بالسباحة ضد التيار والاصرار على ايصال اصواتهم ووجهات نظرهم الى صاحب القرار الذي كان في هذه السنوات المشار اليها مشغولا بمرضه ومنهمكا بالصراع مع اسرائيل وبمتابعة عملية السلام المتعثرة التي كانت بدأت بمؤتمر مدريد الشهير.

ان التململ في حزب البعث ليس جديدا وهو يعود للحظة تسلم السلطة في الثامن من مارس (آذار) 1963 وقبل ذلك، فالبعثيون الاكثر تنورا والاقل اعجاباً بظاهرة الانقلابات العسكرية التي اجتاحت المنطقة والعالم الثالث كله في تلك الفترة المبكرة ما لبثوا ان اكتشفوا عمق الهوة واتساعها بين طرح الشعارات وبين تطبيقها فبدأوا محاولات العودة بسوريا الى تجربة المجتمع المدني والتعددية الحزبية والسياسية والبرلمانات المنتخبة فعليا والصحافة المستقلة الحرة، لكن تيار الشمولية كان الاقوى فجرفهم وجرف غيرهم وبقيت محاولاتهم كالنقش على الصخور الصوانية الصلدة بالإبرة.

لم تكن سوريا الدولة العربية الوحيدة التي غرقت حتى آذانها في الظاهرة الستالينية الشمولية فالمنطقة كلها كانت ساحة لصراع المعسكرات، والمواجهة مع اسرائيل بلغت ذروتها فقويت شكيمة الذين رفعوا شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» وانغمس الطلبة والشبان الذين يتزعم بعضهم الآن الدعوة للجان الحقوق المدنية في ظاهرة ذلك الوقت، من الاعجاب بالثائر الاممي تشي غيفارا الى التعلق بالثورة الفلسطينية التي كانت تعتبر الرد القوي على هزيمة يونيو (حزيران) النكراء، والحرب الفيتنامية وتصدي الاتحاد السوفياتي للولايات المتحدة ومساندته لكوبا وفيدل كاسترو التي وصلت حدود التلويح باللجوء الى الاسلحة النووية.

كانت الانقلابات العسكرية المتلاحقة هي الشغل الشاغل للناس في سوريا ولم يلتقط هؤلاء انفاسهم الا بعد استقرار الوضع بدءا ببداية عقد السبعينات من القرن الماضي، حيث بدأ الجيل الصاعد والمتنورون من الاعضاء السابقين في حزب البعث والاحزاب الستالينية يعلنون عن قناعتهم بعدم صحة شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» بالطريقة التي يطرح بها، وان خوض صراع حضاري كالصراع المحتدم مع اسرائيل يقتضي حتما ان تكون المجتمعات العربية مجتمعات مدنية كما يقتضي الاخذ بالتجربة الديموقراطية وحقوق الانسان والحريات العامة والتخلي نهائيا عن تجربة الحزب الواحد والرأي الواحد والصيغة الشمولية الصماء.

لم تعد المفاهيم السابقة مقنعة لا للغالبية من المثقفين ولا لشرائح هامة من الجيل الصاعد. ووجد هؤلاء ومعهم المتنورون من الاعضاء السابقين في حزب البعث والحزب الشيوعي بكل اطرافه وانشقاقاته ان من واجبهم الاستجابة لتوجهات الرئيس بشار الأسد التي ضمنها اول خطاب له امام مجلس الشعب وأكد عليها في احاديثه وتصريحاته الصحافية اللاحقة.

قد يكون بعض هؤلاء استعجل اكثر من اللزوم واراد حرق المراحل فأخاف القوى والمراكز التقليدية المتنفذة ودفع بعض الذين شعروا ان هذه الظاهرة تهددهم وتشكل خطرا كبيرا على مراكزهم الى القيام بحركة مضادة شعارها الدفاع عن النظام وقطع الطريق على الذين يحاولون اغراق سوريا في الفوضى والصراعات الداخلية بينما هي تخوض مواجهة حاسمة مع اسرائيل و«الامبريالية العالمية».

كان على هؤلاء ألا يحاولوا حرق المراحل وألا يستعجلوا الامور وألا يفعلوا ما فعلته جبهة الانقاذ في الجزائر بقيادة عباس مدني وعلي بلحاج التي لم تتحل بفضيلة التريث واتباع سياسة هادئة فاندفعت بعنفوان ومرة واحدة وكانت النتيجة ان اتحدت مراكز القوى وبادرت الى هجوم معاكس سريع.

صحيح ان هناك فرقا كبيرا بين الواقع السوري الآن والواقع الجزائري في بدايات عقد التسعينات من القرن الماضي. لكن الصحيح ايضا انه كان على المثقفين السوريين الذي اطلقوا ظاهرة لجان المجتمع المدني ان يتحلوا بالنفس الطويل وألا يندفعوا بهذه السرعة وعلى هذا النحو وكان عليهم ألا يتحركوا بهذه الطريقة التي اخافت مراكز القوى والتي وحدت صفوف الذين يتشبثون بالماضي الذي استغلوه بطرق مختلفة للوصول الى ما وصلوا اليه.

لو ان هؤلاء الذين اطلقوا ظاهرة لجان المجتمع المدني ضبطوا حركتهم مع حركة الرئيس بشار الأسد للتخلص من الترهل ومحاربة الفساد والانتقال بسوريا نحو الالفية الثالثة بكل معطياتها لما وحدوا صفوف الذين يخالفونهم الرأي على هذا الشكل. لكن وفي كل الاحوال فإنه لا يزال بالامكان استدراك الامور والعمل اولا لكسب ثقة الرئيس بشار الأسد، فهو شاب متحمس ويعرف ان مراكز القوى المتحجرة هي الاخطر عليه وعلى افكاره وهي العقبة الحقيقية التي تعترض طريق تطلعاته، والسعي ثانيا لكبح جماح المستعجلين الذين يريدون حرق المراحل، فالحديث النبوي الشريف يقول: «ان المنبت لا ارضا قطع ولا ظهرا ابقى».. والمنبت هو المستعجل جدا الذي ينهال على دابته ركلا وضربا فيقتلها قبل ان يصل الى غايته وهدفه.

انه امر طبيعي ان تواجه ظاهرة حقوق الانسان والدعوة الى الديموقراطية والحريات العامة بكل هذا التشكيك وبهذا التحرك المضاد، فالمستفيدون من اي حالة حتى وان كانت مشوهة لا بد ان يدافعوا عنها لأنهم في حقيقة الأمر يدافعون عن مصالحهم وعن انفسهم والمعروف ان كل «ثورة» لا بد ان تتصدى لها وتحاول قطع الطريق عليها ثورة مضادة. فهذه هي قوانين الصراع بين الجديد والقديم وبين الضد والمضاد اليه.

ثم انه امر طبيعي ان يستحضر المقاومون والمعادون لهذه الظاهرة والذين يخشونها ويخافون منها التجربة السوفياتية، حيث ذبحت هذه التجربة وقتل الاتحاد السوفياتي بسكين «الغلاسنوست» و«البيريسترويكا» اللذين اطلقهما ميخائيل غورباتشوف وتحلق حولهما الرافضون للشمولية والمطالبون بتصحيح وضع الحزب الشيوعي المصاب بالترهل والجمود والذي اصبح مطية للانتهازيين والفاسدين والمنافقين.

كان على الذين اطلقوا ظاهرة لجان حقوق الانسان ان يعرفوا ويدركوا ان مناوئيهم لن يتخلوا عن اسلحتهم ومواقعهم بسهولة وانهم سيقاتلون بكل الاسلحة وانهم سيستحضرون التجربة السوفياتية لإخافة حزب البعث واستنفاره وانهم ايضا سيرفعون راية التجربة الصينية التي حافظت على الحزب الشيوعي وابقت على موقعه القيادي وفي الوقت ذاته انتقلت بالشعب الصيني من مرحلة الفاقة والجوع والمعاناة والتقشف الى مرحلة بداية الرخاء والسعادة.

اذا اراد زعماء وقادة ظاهرة حقوق الانسان الوصول الى ما يسعون اليه فإن عليهم تخفيف اندفاعتهم ومراجعة تجربتهم وان عليهم الاقتراب اكثر من حزب البعث فهو الكتلة البشرية المنظمة والمؤثرة، وان عليهم قبل ذلك ان يحوزوا على ثقة الرئيس بشار الأسد وان يحموه من تأثير مراكز القوى التي حرصاً على مصالحها ترفض كل جديد وتقاوم كل انفتاح.