رسالة خطيرة إلى إسرائيل..!

TT

عالم السياسة، والسياسة الدولية على وجه الخصوص، ممتلئ حتى الحافة بالرسائل والإيماءات، وأحيانا الغمز، وأنواع مختلفة من الإشارات التي تختلف في ما بينها في درجة الحدة والرقة، والوضوح والغموض، والتعمد والعفوية. لكن أخطر الرسائل هي تلك التي تتجاوز منطوقها وتعبّر عن مراحل جديدة من التغييرات السياسية التي تدعو أطرافا عدة، لكي تعيد تكييف مواقعها وسياساتها بحيث تختلف كيفيا عن كل ما سبق. وحتى لا يكون في الأمر ألغاز وأحجية، فإن الرسالة التي تستحق الانتباه هي تلك التي أطلقها رئيس الجمهورية الإيراني محمود أحمدي نجاد، ودعا فيها ليس فقط إلى زوال إسرائيل، وإنما أيضا الولايات المتحدة. وبينما لم يهتم أحد بمسألة زوال الولايات المتحدة، فإن مسألة زوال إسرائيل كانت هي التي استدعت موجه هائلة من الاستنكارات العالمية لم يستثن منها أحد. ووجد رؤساء حكومات وقادة دول وزعامات أحزاب وحركات سياسية دولية، أنه من واجبها أن تصدر تصريحات مستنكرة. ووجدت الدول العربية نفسها في مأزق لا تحسد عليه، فقد أعلنت مرارا وتكرارا اعترافها بدولة إسرائيل واستعدادها للسلام معها، لكن تصريح الرئيس الإيراني وضعها في مأزق، إذا استنكرته ظهرت كما لو كانت تؤيد السياسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، وإذا صمتت عليه كانت كمن يعود إلى نقطة «الخلاص من إسرائيل» في البحر التي تبدو كما لو كانت قادمة من عصر بعيد. لذلك جاء تصريح لوزير الخارجية المصري، أحمد أبو الغيط، بخصوص المسألة متمسكا برفض قيام دولة عضو في الأمم المتحدة بمحو دولة أخرى عضو هي الأخرى من الوجود كنوع من الخلاص القانوني من مسألة سياسية بالضرورة وتعيد القضية كلها إلى أصولها وهي مدى شرعية وجود الدولة الإسرائيلية من الأصل.

وربما كانت هذه هي الرسالة الأصلية لمحمود أحمدي نجاد، وهي وضع شرعية إسرائيل موضع التساؤل الدولي، حتى عندما تصدر الاستنكارات من قادة الدول، لأن الاستنكارات والتصريحات لا تصدر إلا لقضية موجودة بالفعل وليس إزاء قضية وهمية. وربما كان أهم الإنجازات التي حصلت عليها إسرائيل خلال فترة التسعينات، وأثناء تنفيذ عملية أوسلو، هي اختفاء قضية شرعية الوجود الإسرائيلي، وحلول قضايا الخلاف العربية ـ الإسرائيلية، محددة بالأرض واللاجئين والقدس والحدود والمياه، إلى آخره من موضوعات. وببساطة فقد انتقل الصراع بالفعل من كونه صراعا على الوجود إلى كونه صراعا على الحدود، أو صراعا على الكيفية التي سوف تتعايش فيها إسرائيل مع جيرانها، ومدى مكانتها الإقليمية في منطقة ظلت غريبة عليها منذ نشأتها.

الرسالة هنا تعيدنا بوضوح كامل دورة كاملة إلى الوراء، صحيح أن الصراع لم ينقطع منذ انعقاد مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط، لكن طبيعة الصراع وجوهره كانت قد تغيرت تماما من التساؤل حول شرعية وجود الدولة الإسرائيلية إلى الكيفية التي يتم بها بناء دولة فلسطينية كانت شرعية وجودها ـ بالاعتراف الدولي ـ قد سبقتها. وما جرى خلال جولة الصراع المعروفة بالانتفاضة الفلسطينية الثانية، وأيا كانت المسببات والتفاصيل، كان تقويض الهياكل الرئيسية للسلطة الوطنية الفلسطينية ـ أو ما تبقى منها بعد الغزوات الإسرائيلية المتتابعة ـ ومعها إمكانيات وجود الدولة. وخلال الأسابيع الأخيرة كان الرئيس الأمريكي جورج بوش قد تخلى عن وجود جدول زمني من أي نوع لإقامة الدولة الفلسطينية، وبعده كان وزير الدفاع الإسرائيلي يقول ان الدولة الفلسطينية لن توجد إلا بعد زمان بعيد.

وهكذا كانت العجلة الفلسطينية تعود إلى الوراء، لكن لأن العجلة الفلسطينية ترتبط تماما في حركة شبه ميكانيكية بالعجلة الإسرائيلية، فقد جاءت تصريحات الرئيس الإيراني لكي تستكمل شكل الحركة السياسية في منطقة الشرق الأوسط خلال الفترة القصيرة المقبلة. فعلى عكس ما يبدو من أن مسرح الأحداث حاليا في الشرق الأوسط يدور بين بغداد ودمشق، فإن تصريحات نجاد تشير إلى القوة الكامنة في القضية الفلسطينية وقدرتها، ليس فقط على التعبئة السياسية ـ وربما العسكرية أيضا ـ إنما على تشكيل الصراعات الأخرى بطريقة جديدة. وعندما يكون الأمر كذلك، فإنه مهما كانت المكاسب المعنوية والدعائية التي ستحققها إسرائيل من تصريحات طهران ـ وهي هائلة ـ فإنه لا يمكن تجاهل الحقيقة الاستراتيجية العظمى، وهي أن استمرار تجاهل حقوق الشعب الفلسطيني، يؤدي بدوره إلى تدهور درجة القبول بإسرائيل والاستعداد للتعايش معها وعودة إسرائيل إلى المربع الأول من وجودها في المنطقة.

وربما كانت هذه هي الرسالة الخطيرة التي على الإسرائيليين فهمها، وكان اسحاق رابين قد استوعبها تماما، ومنذ انعقاد مؤتمر مدريد كانت قضية الصراع العربي ـ الإسرائيلي قد تم اختزالها في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، وكان العرب على استعداد لكي يدفعوا من العملة العربية ـ بالسلام والتطبيع والمبادرة العربية للسلام ـ ما يشجعها على دفع الثمن الضروري للسلام مع الفلسطينيين (دولة ضمن حدود عام 1967)، لكن التلكؤ الإسرائيلي، والعنف الشديد تجاه الفلسطينيين، لم يقوض فقط شرعية قوى السلام العربية، بل انه سرعان ما أدى إلى توليد قوى جديدة للتطرف في المنطقة تعيد القضية كلها إلى أصولها الأولى. وكما حدث منذ عقود طويلة عندما فشل البريطانيون في منح الاستقلال لمصر من خلال المفاوضات مع القوى المصرية المعتدلة ممثلة في حزب الأغلبية ـ الوفد ـ أو حتى أحزاب الأقلية، فإنهم ـ وبقية العالم ـ كان عليهم في النهاية التعامل مع القوى الناصرية الراديكالية خلال الربع قرن التالي بكل ما يعنيه ذلك من مواجهات وصدامات، وباختصار تكاليف استراتيجية فادحة.

هذه المرة فإن التقصير الإسرائيلي، والدولي أيضا، والأمريكي خاصة، في التوصل إلى سلام عربي ـ إسرائيلي، قائم فعلا على حدود السابع من يونيو، قادنا إلى جيل جديد من الراديكاليين العرب والمسلمين الذين ينقلون الصراع نقلة كيفية إلى مستويات ومراتب عنيفة ودامية. ومن السهل تماما على إسرائيل، والولايات المتحدة، الادعاء بأن أسباب الراديكالية العربية والإسلامية هي أعمق بكثير من الصراع العربي ـ الإسرائيلي، بل والادعاء بأن هذا الصراع هو مجرد غطاء لحالة من الفشل الاجتماعي والسياسي. كذلك من السهل تماما الثقة من قِبل إسرائيل والولايات المتحدة وحتى الغرب كله في الانتصار على القوى الراديكالية العربية والإسلامية، بسبب تخلفها وغربتها عن العالم كله وفشلها في الأخذ بأسباب القوة الحقيقية، لكن ذلك لا يقربنا خطوة واحدة لا من السلام ولا من الاعتراف بشرعية الوجود الإسرائيلي، لأن هذه الشرعية لن تكتسب إلا إذا قامت الشرعية الفلسطينية قوية وعفية وفي الوقت المناسب وليس بعد هدم المعابد على رؤوس أصحابها.

ولا شك أن هذه رسالة معقدة تماما، وربما لم يفكر فيها على هذا النحو الرئيس أحمدي نجاد، لكن ما قاله يظل انقلابا كبيرا ليس فقط في اللغة المتداولة في المنطقة، ولكن أيضا في توازنات القوى فيها، لأن إيران قد خلعت القفاز، ودخلنا أول مراحل الحرب. وعندما قال صدام حسين انه سوف يحرق نصف إسرائيل، فقد كان ذلك فاتحة لحربين ربما انتهيا باعتقال صدام وتقديمه للمحاكمة، لكنها كانت ذات اللحظة التي ولد فيها تصريح رئيس الجمهورية الإيراني. ولمن يظن أن المنطقة تمر بأيام سوداء، فما عليه إلا انتظار الأيام القادمة لكي يدرك أنه كان متفائلا للغاية!