الدهر يومان: استرحام برزان.. واستجابة الطالباني

TT

وجه برزان التكريتي، الأخ غير الشقيق لصدام حسين ومدير مخابراته وسفيره بجنيف، رسالة استرحام إلى رئيس الجمهورية العراقية جلال الطالباني، وناشد فيها أيضاً كل مَنْ عرفه وسمع به من الملوك والرؤساء، ومَنْ وجده مؤثراً في القرار العراقي. مخاطباً أمريكا براعية حقوق الإنسان، وبريطانيا بدولة العدل، والرئيس الطالباني بالصديق، ورئيس الوزراء إبراهيم الجعفري بابن العم، على خلفية أنهما حفيدا علي بن أبي طالب، حسب شجرة نسب عائلة صدام التي رسمت ووزعت على العراقيين في الثمانينات.

أشارت رسالة برزان، وبهذا الانكسار، إلى حالة الضعف التي لبسته بعد الإفلاس من أسباب السلطة والمبالغة بالبطر، فشتان بين موكبه بالأمس، وهو يشق شوارع بغداد، وبين تشبثه بالحياة اليوم، وبأي ثمن، من دون حساب لشماتة خصم أو ضحية. تنصل برزان في رسالته عما كان عليه من جبروت: يأمر بتعذيب هذا واعتقال ذاك، وكثيراً ما كانت تأتي أحكام الإعدام جاهزة من دائرة المخابرات أو مديرية الأمن العام. لم يغب عن أذهان العراقيين استعراضات البطولة لبرزان وأخوته. كان شقيقه الأكبر سبعاوي، مدير الأمن العام، يسجل ندواته وتحقيقاته مع ضباط الأمن على كاسيتات فيديو، وهو يأمر بنبرة الشر: حماية! خذوه.. وكلمة خذوه ليس لها تفسير غير التعذيب والسجن أو الإعدام. أما استعراضات صدام فكانت مسلسلاً يومياً، يشاهده العراقيون من على شاشة التلفزيون الرسمي الوحيد ببغداد. أتت تلك الاستعراضات بثمارها حتى أخذ الناس، تحت تأثير الإعلام، يتداولون شجاعة صدام وأخوته، مثلما تداولوا بطولة المصارع عدنان القيسي، يوم أتى به البعثيون ليقوم بتمثيل دور العراقي المنتصر أبداً على مصارعين من عظام الأجساد، وكلما أتوا بمصارع، من نوادي المصارعة، قدموه بطلاً للعالم، من أمريكان وفرنسيين واسكتلنديين.

كانت رسالة برزان شهادة حية على أن ضعف القساة يتعدى أدنى حال من حالات ضعف ضحاياهم، بل يداخلهم الحسد من قوة الضحية وتصلبها وعنادها في وجوههم. هناك أعداد من ضحايا دائرة المخابرات العراقية، والدوائر السرية الأخرى، ماتوا تحت العذاب دون الإقرار بالتخلي عن معتقد ورأي، وأخفوا حتى الموت أسماء أصدقاء وأتباع، والعذاب كان جسدياً ونفسياً، فأي قوة يتحملها المرء وهو يرى ابنته تهدد بالاغتصاب أمام عينه، أو امرأة، متهمة بقضية سياسية، تعلم أنها ستعدم بعد وضع وليدها، ويسلم الوليد لذويها مع جثمانها.

أتت رسالة برزان تذكيراً بأن «الدهر يومان: يوم لك ويوم عليك، وإن كان لك فلا تبطر، وإن كان عليك فاصبر». والكلمة الآنفة شطر من حكمة من قصارى حكم الإمام علي بن أبي طالب، جاء في أولها: «المنية ولا الدنية، والتقلل ولا التوسل، ومَنْ لم يعط قاعداً لم يعد قائماً». وبرزان بطر ولم يصبر، وفزع من المنية سوى بحكم محكمة أو بمرض، ولم يستشعرها يوم كان يدنيها من نحور الآخرين. وليس لعاقل الشك بمسؤولية مدير مخابرات بعث العراق: برزان أو سعدون شاكر أو فاضل البراك، عن الاغتيالات بخارج العراق وداخله، أو عن الموت تحت العذاب.

وعلى الرغم من كل العذاب الذي سببه برزان وأشقاؤه للعراقيين، إلا أن رسالته كانت استرحاماً وليست اعتذاراً لشعب تحمل وصبر، فمَنْ وجد له منفذاً هرب من جحيم الوطن، ومَنْ أعاقه جواز السفر، أو تربص السلطة، أو كثرة المعالين، تحايل على المحنة بما لا طاقة له. وكما رأينا ظلت الغطرسة، حتى لحظة سقوط التمثال، حاجزاً بين برزان، وأعمدة النظام السابق الآخرين، وبين عذابات العراقيين وشكواهم. فهذا طه الجزراوي، نائب صدام والمتقدم في المنصب منذ 1968 وحتى 2003، استغرب من سؤال القابضين عليه بالموصل، فأجابهم متجاهلاً كوارث الأنفال وحلبجة: «وهل حدث هذا؟».

كان اعتذار برزان، وإعلان حجم مسؤوليته، سيقلل من غضب الضحايا، ويشعرهم برد الاعتبار من قبل الجلاد وإن كان سجيناً. أما الإصرار على البراءة، كما ورد في رسالته، فلا يفسر إلا بمحاولة استغباء الآخرين، لكن إن استغبى، أو اشترى برزان مثقفين وكُتاب عرب وعراقيين، فكتبوا سابقاً حول محاولة تمايزه عن أعمدة الحكم، وهو ما زال يجلس على العرش المالي بجنيف والأخ الأقرب من صدام، فليس له فعل ذلك من داخل قفص الاتهام، بل ليس له ممارسة الفعل مع الضحايا أنفسهم، وهم ينتظرون حكم العدل لا الانتقام منه.

ومع كل ما تقدم، ليس لنا تجاوز الفارق بين اليومين: يوم برزان التكريتي ويوم جلال الطالباني، فاستجابة الأخير، وهي ممارسة مرفوعة من قاموس الحكم السابق، تشير إلى أن العراق بدأ يستعيد عافيته، وأن العدالة والإنسانية ليستا مفارقتين لطينته وبشره، وهي ستهز مصداقية الإعلام العربي المضاد، الذي يرى في برزان الضحية وفي الطالباني الجلاد كرئيس جمهورية، بل تستدعي الاستجابة لبرزان مراجعة تأييد الإرهاب باسم المقاومة، فكم قطعت رؤوس، وانتزعت أحشاء وسط استغاثات واسترحامات المقتولين!. قال أحد الإعلاميين العرب، وهو سعيد بالموت العراقي، أمام حشد من مؤيدي الإرهاب بلندن: «في العراق الآن مقاومة بطولية غير عادية، يعني هذه المقاومة بدأت تفرض نفسها بطريقة وأخرى».

لا شك، أن تلبية طلب برزان، وهو حق من حقوقه كسجين، هي الرد الشافي على خطاب تسعير الإرهاب، والرغبة الجامحة في عودة زمن القسوة. زمن كان لا يقبل فيه استرحام، ولا تسمع فيه استغاثة، ولا وساطة ملوك ولا رؤساء جمهوريات، من الذين ناشدتهم رسالة برزان نفسها. عموماً، رغم كل معرقلات بناء العراق، من الإرهاب وإشاعة العنف وتكريس الطائفية وفساد المسؤولين وتقديم مصالح الخواص على مصالح العوام، إلا أن عقدة لسان العراقي قد حلت، وأسباب الخوف والفزع قد مثلت في قفص الاتهام، وعلى العراقي ألا يساوم ويقبل بأقل من بناء دولة القانون. أقول بألا تزعج تلبية طلب برزان العناية الطبية عراقياً، أراد أن يكون زمنه مختلفاً عن زمن الأنفال وصولات الغضب والقبور الجماعية. زمن يضع حداً لدورات العنف، وتصفية الحساب بقانون الغاب. هذا إذا كانت النوايا سليمة وصادقة بقيام دولة يعز بها الإنسان ولا يهان.