مقاومة التطبيع هي الجهاد الأكبر

TT

حسنا فعلت الحكومة الاردنية بمنع الصحافيين الاسرائيليين الستة من الحضور في أروقة مؤتمر القمة العربية الثالثة عشرة في عمان. وكانت السلطات المسؤولة قد طلبت من الاشخاص المذكورين حزم امتعتهم والعودة الى حيث أتوا، بعد ان اصرت بعض الوفود الخليجية المشاركة في القمة على عدم السماح للعناصر الاسرائىلية بالوجود في القمة وفي ما بين الوفود العربية، بل انها هددت بالانسحاب اذا ما حصل ذلك. وان احتاج الاخوة الاردنيون لدليل على صحة قرارهم، فيكفيهم ان وزير خارجية اسرائيل شمعون بيريز قد انتقد القرار بشدة! هناك دول وشخصيات عربية تصر على المضي قدما في نهج التطبيع مع المؤسسات الاسرائيلية، بغض النظر عن المواقف الاستفزازية والسياسة العدوانية لهذا الكيان تجاه الشعب الفلسطيني والامة العربية جمعاء. والحق يقال ان بعض المواقف العربية المشرفة، وفي مقدمتها موقف المملكة العربية السعودية الحازم تجاه عملية التطبيع، واستمرارها على وضع قضية القدس الشريف في عين الازمة، وعدم التهاون قيد أنملة في هذا المجال، يستحق التقدير والثناء، اذ انه يأتي رغم الضغوط الهائلة التي يمارسها الغرب وفي مقدمته الولايات المتحدة الامريكية، كما انه موقف جعل من الصعب على الكثيرين المضي قدما في تنفيذ استراتيجية هنري كيسنجر وشمعون بيريز وتصوراتهما حول «الشرق الاوسط الجديد»، القاضي باستيعاب الكيان الاسرائيلي المتوحش في عنصريته وجعله جزءا لا يتجزأ من منظومة المنطقة، حيوانا أليفا يحب الحق والسلام والخير. واعتمدت الخطة الامريكية ـ الاسرائيلية، وبالذات منذ اتفاقيات اوسلو ومدريد على اختيار وتقنين المنافذ التي ستعبر من خلالها مسيرة التطبيع، والتي من اهمها:

1 ـ التطبيع المؤسساتي، حيث انشئت لجان مشتركة لمناقشة القضايا الاقتصادية (المؤتمر الاقتصادي)، وقضايا المياه والبيئة وغيرها، حيث مكنت خبراء اسرائيليين مختارين بعناية قصوى لحضور لجان مشتركة مع وفود عربية في بعض العواصم المشاركة في تلك اللجان، وتبادل الآراء في كيفية دمج اسرائيل في هذا «الشرق الاوسط الجديد» حسب تعبير بيريز.

2 ـ التطبيع الاقتصادي، حيث جرت محاولات عديدة ـ فاشلة ـ لربط الاقتصاد الاسرائيلي اولا بالاقتصادين المصري والاردني، وثانيا باقتصاديات قطر وعمان وتونس والمغرب، واخيرا باقتصاديات الدول الأخرى. وشاعت مقولة عنصرية كريهة، مفادها ان ازدهار المنطقة قوامه العقول الاسرائيلية والمال العربي، وان ذلك سيخلق جنة الخلد في منطقة الشرق الاوسط، وكأن العرب ليست لديهم عقول يفقهون بها. كما تم الترويج لمشاريع استثمارات اسرائيلية في مصر وتونس، وسياحية في الاردن والمغرب. وعلى الصعيد الخليجي، فتح مكتبان للمصالح في كل من الدوحة ومسقط بهدف ترويج البضائع الاسرائيلية في السوق الخليجية ذات القوة الشرائية العالية، وتزويد اسرائيل بالنفط والغاز من منطقة الخليج مباشرة. وبالفعل فقد عقدت اتفاقية لتصدير الغاز القطري لاسرائيل، والتي هي في امس الحاجة لمصدر الطاقة الموجود في الخليج بوفرة.

من الناحية الرسمية فقد اغلق المكتبان في عُمان ابان الانتفاضة الفلسطينية، وفي قطر عشية مؤتمر القمة الاسلامية في نوفمبر الماضي. كما حاول الاسرائيليون الدهاة في عالم المال والاعمال التغلغل في بعض اسواق المال العربية، بل تخريب ما يمكن تخريبه كما اشيع في تحقيقات اجريت في دولة الامارات العربية المتحدة في العام الماضي.

3 ـ التطبيع الثقافي، وذلك عن طريق التغلغل الصهيوني إما من بوابة اسرائيلية مباشرة، او من الباب الخلفي الامريكي، الى عقول ونفوس بعض «المثقفين» والكتاب والفنانين العرب والى مؤسسات ما يدعى بالمجتمع المدني. وقامت جهات اسرائيلية بدعوة بعض هؤلاء لزيارتها والتعرف على الفردوس الديمقراطي ومدنية الشعب الوديع والمسالم، ونقل هذه الصورة مصحوبة بالمشاعر الجميلة الى الشارع العربي «الغشيم» الذي اعماه التعصب الديني والرجعية السياسية عن التعرف على هذا الكنز الثقافي الثر الذي يقع على مرمى حجر (او صاروخ) من حدودنا.

ونشطت الاقلام والابواق التطبيعية، في محاولة يائسة لتسويق بضاعتهم الفاسدة على العرب، ولعبت بعض الصحف، والاهم بكثير بعض الفضائيات «المتحررة» دورا بارزا في الترويج لأطروحة بيريز الاسرائيلية بالدمج الثقافي المستحيل بين فكر صهيوني «عنصري» استعلائي توسعي وانتقامي، وفكر اسلامي متنور يستوعب الانسان على ماهيته البشرية وعلى اختلاف عروقه العنصرية وعقائده الدينية.

4 ـ التطبيع السياسي، وهو الاصل والاهم هنا، حيث حاولت امريكا ربط مصائر بعض الدول العربية، بل شعوبها، بمصير الكيان الاسرائيلي، وخلق اعداء مشتركين بين الجانبين، مثل الاسلام الاصولي السياسي، او الحكومات العربية المهددة لهذه الدول. ولم يقصر بعض الاخوة في الحركات الاسلامية العنيفة في مساعدة هذا المشروع الامريكي الذي حاول خلط الغث بالسمين، عن طريق حزم حركات تحررية تتصدى للعدوان الاسرائيلي على الامة، مثل حزب الله في لبنان وحماس في فلسطين في الربطة نفسها مع حركات تمارس العنف ضد مجتمعاتها في بعض الدول العربية والاسلامية. كما لم يبخل بعض الزعماء العرب في دعم مشروع الربط الامريكي عندما تصرفت اسرائيل ضد دول مجاورة لها بطريقة استعلائية في محاولة اما لالغائها تماما او تذويب شخصيتها الوطنية او قضم اجزاء منها، متذرعة بأوهن الحجج التاريخية والجغرافية وأتفه الاسباب مما لا ينطلي على الاطفال. وسقط البعض في هذا الفخ، فخرج علينا محللون اسرائيليون في فضائيات عربية يحذرون من «العنف» الاسلامي الذي سيطال الكراسي العربية بقدر تطاوله على وجود اسرائيل. كما اشاروا ـ ويشيرون ـ الى ان مركز الازمات، ليس هو استمرار الاحتلال الاسرائيلي، في الاراضي العربية، بل ان النيات الخبيثة التي يبيتها العرب لبعضهم بعضا ـ وهي نيات ترجمت الى افعال احيانا ـ هي التي تهدد الكيانات العربية، والسلام في المنطقة.

واستمر المشروع الامريكي الذي بدا جليا في مؤتمر شرم الشيخ الشهير لمواجهة الارهاب، يحاول ربط الامن العربي بأمن اسرائيل ـ وهو عكس الواقع تماما ـ واذا اتحد المجموع على التهديد الخارجي، فالنتيجة تلاحم داخلي بين العرب والاسرائيليين. غير ان الشارع العربي لم يشتر البضاعة، كما ان حكومات عربية وبمساعدة مباشرة من سياسة اسرائيل العدوانية، استطاعت بحمد الله فك الارتباط الباهت بين ما هو مقاومة للاحتلال وما هو عمل ارهابي ضد المجتمع العربي، كما استطاعت الاقلام العربية الواعية والشريفة، التفريق ما بين مصالح العرب ومآسيهم مع بعضهم بعضا، وبين الصراع التاريخي بينهم وبين شجرة خبيثة زرعت في تراب المنطقة.

5 ـ التطبيع الاعلامي، وهنا كانت بعض الفضائيات رائدة في فتح شاشاتها لهذا السياسي الاسرائيلي، وذلك المحلل او الكاتب الصهيوني تسأله عن رأيه «المحايد» في العرب وشؤونهم وشجونهم، حتى لكأنك في عالم الواق واق او افلام الخيال العلمي، إلا انه، وا أسفاه، الحقيقة، فحتى في امريكا واوروبا لا يسمحون إلا لمن ارتضوا من المعلقين العرب، ضمن استراتيجية اعلامية محكمة ناضجة، علمية في اصولها، تعرف الهدف المقصود من الاستضافة وطريقة الوصول اليه. وأذكر انني اشتركت في برنامج حي على واحدة من هذه الفضائيات «المنفتحة» جدا، وبعد ان انهيت مداخلتي الاولى، اعلن مقدم البرنامج ان المحلل المدعو شاؤول مناشيه من القدس المحتلة سيرد على وجهة نظري. كان الموضوع على ما اذكر يدور حول قرار ايهود باراك، رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق، بتقديم دعم مالي وتسهيلات للمستوطنين اليهود في الجولان السورية المحتلة، لكي يوسعوا مستعمراتهم، ثم طالب، وفي الوقت نفسه من الرئيس السوري الراحل حافظ الاسد بمد يد السلام لاسرائيل. غضبت كثيرا لأنني لم اخبر مسبقا بوجود هذا المشارك من القدس، وبعد ان اجبت عن مداخلته المملوءة مغالطات وتهجمات على سوريا والعرب، انسحبت من البرنامج رافضا التحاور مع ذلك الصهيوني المعتق. وما كان رده إلا ان اتهمني بتوجيه اهانة لدولة اسرائيل، فحمدت الله على تلك التهمة. حمدت الله ايضا انه ما ان خرجت من الاستوديو حتى وجدت جميع موظفي المحطة يعلنون موافقتهم الكاملة على انسحابي و«تخريب» البرنامج. وفي ما بعد اخبرت مقدم البرنامج الزعلان جدا، انني حر في من احاور ومن لا احاور. واذا كان البعض يعشق التطبيع، فملايين العرب ليست بهذه البساطة التي يفترضها دعاته، ولن تصم آذانها وتغمض عيونها عن الجرائم المتكررة التي يرتكبها الاسرائيليون ضد العرب ومقدساتهم واجيالهم.

في الختام، اكرر تأييدي للسلطات الاردنية التي حظرت على الصحافيين الاسرائيليين المشاركة في تغطية القمة العربية، اذ ان ذلك الاجتماع العربي، وما صاحبه من خلافات اقرب للمصارعة الحرة منه لحوار الاشقاء، لم يكن بحاجة لرفسة مهينة أخرى تأتيه هذه المرة من الاقلام الاسرائيلية. واعلن اكباري لمواقف الوفود العربية التي اصرت على مضيفيها بطرد من يدعى بالصحافيين الاسرائيليين. فنحن يكفينا ما نعرفه عما جرى في جلسات المؤتمر من ان ينقله الاسرائيليون بتفسيراتهم «المحايدة». ان التطبيع مع اسرائيل، في وقت ما زالت فيه الحقوق العربية مهضومة، وما زالت الارض العربية تحت الاحتلال، والقدس مهددة بأن تسلخ من جسمها العربي والاسلامي، هو انهزام يؤذي كينونة هذه الامة، في عقولها وقلوبها، ولا بد من مقاومته، اذ تكفينا الهزائم في الخارج الملموس والمؤقت، من ان نضيف لها هزيمة في الدخيلة والنفوس، وهذه المقاومة، مقاومة التطبيع بكل اشكاله ومسمياته هي بحق الجهاد الاكبر.

* باحث استراتيجي بحريني