مضى عام على رحيله.. ويده بإشارة النصر لا تزال مرفوعة

TT

بحلول يوم غدٍ، الحادي عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) يكون قد مرَّ على رحيل الرئيس الفلسطيني السابق ياسر عرفات عام كامل، بأيامه ولياليه، وهو عام بقيت القضية الفلسطينية خلاله تدور في حلقة مفرغة ولم تشهد إلا تطوراً واحداً هو الانسحاب الاسرائيلي مــن قطاع غزة، الذي ورغم عيوبه، إلا أنه يستحق ان يوصف بأنه تقدم لا يمكن إنكاره بعد أعوام من الجمود الشامل الذي عاشته القضية الفلسطينية.

وبالطبع فإن أول سؤال يقفز الى الذهن في هذا اليوم هو: هل ان موت هذا الرجل، الذي جسد قضية فلسطين بكل مآسيها وتقدمها وتراجعها وسلبياتها وإيجابياتها لنحو أكثر من أربعين عاماً، كان طبيعياً أم ان هناك مؤامرة قذرة وأنه اغتيل ولكن بأسلوب أكثر بشاعة كما اغتيل زملاؤه الذين سبقوه على طريق الشهادة، وفي مقدمتهم خليل الوزير (أبو جهاد) وصلاح خلف (أبو إياد).

لم تظهر الحقيقة حتى الآن رغم مرور عام كامل بالنسبة لهذا الأمر الخطير، الذي يتعلق برجل كان أكثر من رئيس دولة وأهم من مجرد زعيم فصيل مقاتل. فـ «ياسر عرفات» كان مفجر ثورة مستحيلة وهو زعيم شعب يستحق وصف شعب النضال والشهداء عن جدارة، وهو قائد مسيرة عسيرة هي أصعب مسيرة عرفتها البشرية في تاريخها القديم والحديث.

والواضح ان غياب هذا الرجل التاريخي، عن حق وحقيقة، ورحيله عن قضية أعطاها كل عمره، بينما هي لا تزال معلقة من رموش عيونها، سيبقى لغزاً من الألغاز. ولذلك فالسؤال الثاني الذي من الممكن الانتقال إليه في هذه المناسبة المؤلمة هو: ماذا حقق ياسر عرفات لشعبه وقضيته يا ترى خلال قيادته لمسيرة طويلة كان فيها هو القائد العام، وهو الرئيس والمعلم وهو الزعيم الاوحد المتحكم بكل شيء من نقل موظف صغير من وظيفة الى وظيفة اخرى، وحتى إعلان الحرب على طرف حاول مدَّ يده نحو القضية الفلسطينية..؟!.

إن هذا السؤال كان قد جرى توجيهه الى «أبو عمار» ولكن بصيغة أخرى وهو في طريق العودة من نيودلهي الى تونس، بعد مشاركته في تشييع جنازة رئيسة الوزراء الهندية السابقة أنديرا غاندي... لقد سأله أحد الذين كانوا يرافقونه في تلك الرحلة عما يخشاه ويخافه بعد ان وصلت القضية الفلسطينية الى ما وصلت إليه، وبعد ان فقدت منظمة التحرير أهم قاعدة لها على الإطلاق، عندما أجبرها الغزو الإسرائيلي عام 1982، على الرحيل عن بيروت وألغى وجودها وتواجدها على كل الاراضي اللبنانية.

... صمت أبو عمار مطولاً وبقي يحملق في سماء ملبدة بالغيوم عبر نافذة طائرته، ثم اعتدل في مقعده وقال لسائله بنبرة حزينة: إن أكثر ما أخافه وأخشاه هو أن أغادر هذه الدنيا وان أترك هذه المسيرة بدون أن أحقق أي إنجازٍ لشعبي، الذي قدم دماءً وتضحيات لم يقدمها شعب آخر، والذي لا يزال طريقه طويلاً حتى يصل الى بعض حقوقه الوطنية العادلة.

عاد أبو عمار الى الصمت ومتابعة قطعان الغيوم وهي تبدو من نافذة الطائرة الصغيرة تتراكض في اتجاهات مختلفة كقطيع أغنام فاجأتها ذئاب جائعة على حين غرَّة، ثم اعتدل في مقعده مرة أخرى وقال لسائله بصوت خافت وبنبرة تقطر حزناً ووجعاً: هل تذكر كيف ودَّعنا الحاج أمين الحسيني الوداع الأخير في بيروت... لقد كان رجلاً عظيماً وقائداً فذاً رحمه الله، ولكن المعادلة في تلك الفترة المبكرة لم تكن لمصلحته ومصلحة قضيته فانكسر وانكسرت معه هذه القضية.

كان أبو عمار يشير الى ذلك اليوم من بدايات اندلاع الحرب الاهلية اللبنانية المدمرة، عندما نُقل جسد الحاج أمين الحسيني من مستشفى المقاصد الاسلامية في بيروت الى ساحة قريبة لتوديعه وداعاً رسمياً أجري على عجل، واختلط خلاله هدير المدافع وزمجرات الصواريخ بالأنغام الجنائزية الحزينة التي كانت تصدحها فرقة موسيقية تابعة لجيش التحرير الوطني الفلسطيني.. وهو وداع لم يحضره ولم يشارك فيه إلا ياسر عرفات نفسه، وعدد لا يتجاوز عشرة أشخاص من قياديي الصَّفين الثاني والثالث في هرم القيادة الفلسطينية.

والآن وإذْ نتذكر بعض المحطات التاريخية على طريق الكفاح الفلسطيني الطويل، فإنه بالإمكان استنتاج ان أجواء الحزن والمَقْتْ التي خيمت على لحظات رحيل الحاج أمين الحسيني هي أجواء الحزن نفسها التي خيمت على لحظات رحيل ياسر عرفات، وذلك رغم ان وداع الاول كان في بيروت وكان بسيطاً وعاجلاً، بينما وداع الثاني كان في القاهرة وكان مهيباً، وشارك فيه معظم القادة العرب وبعض قادة الدول الأوروبية وغير الاوروبية.

وهنا وبالعودة الى سؤال: ماذا حقق ياسر عرفات يا ترى لشعبه وقضيته، فإنه لا بد من الإشارة بداية الى عدم وجود أي وجه شبه بين هذا الزعيم الفلسطيني النادر وبين سلفه الحاج أمين الحسيني، مع ضرورة التنويه الى اختلاف الظروف الاقليمية والدولية بين المرحلة السابقة والمرحلة اللاحقة، واختلاف موازين القوى واختلاف الوضع العربي ووضع الشعب الفلسطيني نفسه.

لقد حقق ياسر عرفات لشعبه إنجازات لا ينكرها إلا جاحد وغائب ضمير. ولعل أهم ما حققه هذا الرجل هو تفجير ثورة في أصعب الظروف وأخطرها وهو تحويل الشعب الفلسطيني من شعب هويته بطاقات التموين والمخيمات البائسة، الى شعب هويته النضال والبنادق والقواعد الفدائية.

ربما أخطأ ياسر عرفات هنا او هناك، وربما أنه ما كان يجب ان يفعل بعض ما فعله، لكن وبصورة عامة فإن التاريخ سيسجل لهذا الرجل انه فجر ثورة مستحيلة وانه قاد مسيرة عسيرة، وأنه نقل القضية الفلسطينية من بؤس مخيمات اللاجئين المزرية الى كل المحافل الدولية، وأنه أسس لدولة ستقوم قريباً بالتأكيد رغم أنوف كل المعادلات الاقليمية والدولية، وأنه وضع قضية شعبه على بداية طريق تحقيق ما كان يعتبر تحقيقه معجزة لا يمكن الوصول إليها ولا تحقيقها. عندما كان ياسر عرفات يصعد درج السفينة التي رحل فيها عن بيروت بعد حرب عام 1982، سأله أحد الصحافيين الذين شاركوا في وداعه الى أين هو ذاهب بعد «هذا السبي الجديد»!! وكان جوابه الفوري والتلقائي: «الى فلسطين.. الى القدس.. الى القدس».

لقد اعتقد الذين سمعوا ما قاله ياسر عرفات وهو يرتقي سلم السفينة الايطالية التي حملته الى المنافي الجديدة ان الامر مجرد مكابرة، وأنه عدم اعتراف بوجع الجرح الذي كان لا يزال راعفاً كما اعتقدوا ان (أبو عمار) سيضطر الى الانحناء للمعادلة الجديدة، وانه لن يرفع يده بإشارة النصر بعد وانه سيُودِعُ مسدسه بوابة أول مطار عربي، وأنه سيبحث عن مكان يقضي فيه بقية حياته، كما قضى الحاج أمين الحسيني بقية حياته في دارة تطل على بيروت وبحرها من جهة الشرق.

لكن عرفات الذي حوصر لاحقاً في طرابلس اللبنانية كحصاره في بيروت، والذي لاحقته الطائرات الاسرائيلية حتى تونس وكادت تصطاده في ضاحية «حمام الشاطئ»، والذي خرج من الموت بأعجوبة عندما سقطت طائرته في الصحراء الليبية في تلك الحادثة الشهيرة، بقي يسبح ضد التيار وبقي يرفع يده بإشارة النصر حتى اللحظة الأخيرة التي غادر فيها أرض فلسطين وعاد إليها ملفوفاً بالعلم الفلسطيني، ومحمولاً على أكف زملائه ودفن في رام الله على بعد صياح الديك من المسجد الاقصى، الذي بقي يحلم بزيارته والصلاة فيه ذات يوم قريب !!.