من بيروت إلى بغداد .. مرورا بسراييفو

TT

يوما إثر يوم، يتضح لمتتبعي أخبار لبنان أن مستقبل الوضع في لبنان، وربما المنطقة أيضا، لن ينجلي قبل جلاء الحقيقة في جريمة اغتيال رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري

ما بدأ يندرج، إقليمياً ودولياً، في خانة جريمة القرن الحادي العشرين، بدأت تتخذ في بيروت ابعادا تذكر بأبعاد جريمة عصر أخرى في القرن العشرين، هي جريمة اغتيال الارشيدوق فرنسيس فرديناند، ولي عهد الامبراطورية النمساوية ـ المجرية، في سراييفو في يونيو (حزيران) من عام 1914، مع فارق واحد، هو ان جريمة سراييفو كانت الشرارة الاولى في اندلاع الحرب العالمية الاولى، في ما تبدو تداعيات جريمة بيروت محصورة، حتى الآن، بـ «تدابير» مجلس الأمن وما يستتبعها من هز عصا الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا.

لكن، بقدر ما شكلت جريمة سراييفو الخلفية التاريخية لإعادة رسم خريطة البلقان، توحي جريمة بيروت بأنها ستكون المناسبة التاريخية لإعادة صياغة خريطة الهيمنة الخارجية على الشرق الاوسط، بدءا بتحديد هوية الوصاية الجديدة على لبنان، وانتهاء بفرض هذه الوصاية على دول الهلال الخصيب بأكمله، في ظل استحالة فصل موازين القوى الاقليمية في الشرق الاوسط عن موازين القوى الدولية في العالم.

وقد يكون وجه الشبه الآخر بين الجريمتين في تسبب جريمة سراييفو بتفتيت الامبراطورية النمساوية ـ المجرية لحساب اقلياتها القومية (المجر والألمان والسلوفاك والتشيك والكروات والرومانيون)، وابقائها جمر الصراعات الطائفية المنشأ لشعوب البلقان (الكاثوليك والارثوذكس والمسلمون)، متقدا تحت الرماد، الى ان تفجرت هذه الصراعات علنا في التسعينات، إثر وفاة جوزيف بروز تيتو، وانهيار الاتحاد اليوغسلافي.

وبدورها تهدد التداعيات السياسية لجريمة بيروت بشرذمة المجتمع السياسي اللبناني، وفق مكوناته الطائفية الاساسية (سنّة وشيعة وموارنة)، وهي شرذمة قد تأخذ عمقا اقليميا في وقت يتواصل في تفتيت العراق طائفيا (سنّة وشيعة)، وعِرقيا (عرب وأكراد)، وتهديد سورية بفتنة داخلية، عرقية وطائفية ايضا.

وبموازاة ذلك، ترتفع في الشرق الاوسط حرارة نزاعات الكبار (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا)، والصغار (ايران وسورية)، على الكلمة الاولى في المنطقة، فيما تلتزم اسرائيل بصمت مريب حيال ما يجري حولها لعلمها اليقين بأن الحصيلة النهائية لهذه النزاعات هي «بلقنة» الشرق الاوسط، وهذه البلقنة لن تكون الا في صالحها وصالح مفهومها الديني للدولة.

لم يسبق لدول الهلال الخصيب ان عاشت مرحلة دقيقة من انعدام وزن كالمرحلة الراهنة: قرارها في يد مجلس الأمن، مصيرها في يد البيت الابيض وحلفائه.. فيما تهدد الصراعات الاقليمية والدولية المتداخلة والمتقاطعة على ساحتها بأن تتخذ منحى أخطر خلال السنوات الثلاث المتبقية من عهد جورج بوش، في ظل اتجاه ادارته الى الربط بين مصير العراق وسورية ولبنان، في اطار بناء ما تسميه واشنطن «الشرق الاوسط الجديد». في ظل هذه «الوحدة» في المصير المظلم بين دول الهلال الخصيب، يبدو لبنان الدولة الاكثر عرضة للتأثر بتداعيات التحولات المرتقبة، فخارجيا يستحيل عليه ان ينأى بنفسه عن مصير بيئته الجغرافية، وداخليا يصعب عليه الحفاظ على «زواج المصلحة» بين اللبنانيين، ما لم يجمعوا هم على مصلحة مشتركة تبقي على صيغة لبنان الواحد.

وبانتظار حوار داخلي حول لبنان المستقبل ـ طال التحاور عنه وبعد التحاور فيه ـ يعيش لبنان، مكرها لا بطلا، مرحلة انتقالية بين وصاية ووصاية بانتظار أن يضع المحقق الدولي في جريمة اغتيال الحريري، ديتليف ميليس، تقريرا قد لا يحدد المسؤوليات في جريمة القرن الحادي والعشرين، بقدر ما سيحدد الخريطة السياسية للبنان، وربما سورية، في القرن الحادي والعشرين.