وقفات: من سوريا والعراق.. وإلى انتخابات مصر وأحداث فرنسا

TT

تتزاحم الأحداث والخواطر مع الزمن والتطورات المتلاحقة في تلك الأيام المليئة والحبلى باحتمالات المستقبل وانعكاسات الماضي وتطورات الحاضر، فيحتار المرء بين خيارات عدة لموضوعات يتطرق إليها في إطلالته على القراء ويستقر على محطات يمر عليها تباعاً وسريعاً حتى لا تفوته أمور قد يكون من المهم ألا تفوته، حتى لا تنقطع سلسلة أو خيط الفكر في زمان مزدحم بالإرهاصات والبدايات التي لا نعرف بعد إلى أين تنتهي.

المحطة الأولى هي سوريا التي ما زالت تمر بمرحلة الخطر بسبب أخطاء ارتكبتها لم يتضح بعد عمقها ولا مداها ولا حقيقة جوهرها، وإن كان واضحاً أن المتربصين لا يهمهم كل هذا بقدر ما يهمهم الوصول إلى أمور حددوها سلفاً، وليست بالضرورة مرتبطة بالشبهات المحيطة بالجريمة البشعة التي أودت بحياة رفيق الحريري، وتكاد نيرانها تحرق وتدمر بما هو أوسع من معاقبة الجاني والاقتصاص للمجني عليه، وتثير عواصف وزوابع تتجاوز «الخرائط المعتادة للأحوال الجوية».

وليس من شك أن هذا يلقي مسؤولية خاصة على كل الأطراف التي يهمها وقف التدهور، ومنع الانزلاق إلى قاع البئر التي حفرها البعض ويحاول البعض الآخر تعميقها، وأول هذه الأطراف في دمشق، حيث تكون هزيمة المخططات بمواجهة الحقائق ـ مهما كانت مرة ـ، والتعاون مع ما هو شرعي من تحركات دولية حتى لا تعطي الفرصة لها لتتسارع في اتجاهات غير مستحبة. ومن هذه الأطراف أيضاً الأطراف العربية ـ ومن بينها بالقطع لبنان ـ الذي يجب ألا يسمح بالفرقة بينه، والذي يجب أن يوجه جهده في جميع الاتجاهات بكل الحزم والعزم حتى لا يؤكل الثور الأسود في الطريق إلى افتراس بقية الثيران بيضاء كانت أم سوداء. كما يجب أن تساهم كل القوى الدولية التي ترغب حقاً في استقرار الحياة الدولية، على أسس سليمة فلا تكون محصلة لأطماع وآيديولوجيات وحماقات يمكن أن تهدم العلاقات الدولية والنظام الدولي كله.

ثم نأتي إلى العراق، لنحيي جهود الأمن العام لجامعة الدول العربية الشجاعة، (بناء على تكليف عربي لعله تأخر أو أُخر كثيراً)، لمحاولة تحقيق مصالح وطنية وقومية تحفظ للعراق وحدته وسلامته وعروبته وتخلصه من احتلال أجنبي، وتطهره من آثام بريمر وزبانيته الذين زوروا الحقائق، وشجعوا الفرقة، واتبعوا سياسات تتنافى مع كل ما اتفق الأميركيون سنوات ليقنعوا به العالم، من مبادئ طالما تباهوا بأن دستورهم قد قننها لإقامة أنظمة عادلة تستجيب لمطالب الشعوب فتحقق لها العدالة وتقرير المصير. وما زلت أخشى أن يكون الوقت قد فات، أو أن يكون غير موات لنأمل في اندمال الجروح واختفاء الشروخ التي أوجدها الاحتلال وسياساته وممارساته التي ما زالت مستمرة حتى اليوم. ولا أعرف كيف لم يهتز العالم لأنباء السجون السرية التي أقامتها الولايات المتحدة في أنحاء متفرقة في العالم ـ وأحياناً فيما يبدو دون علم الدول المعنية ـ، لتخفي فيها ـ بالمخالفة لقوانينها هي ذاتها ـ أناساً جردتهم من كل حقوق الإنسانية كما تجرد سجانوهم من كل صفات الإنسانية، لمجرد شكوك دون مراعاة اعتبارات العدالة التي يتباهون بها ويتظاهرون بالدعوة إليها، وهم لا يؤمنون بها فيما يبدو إلا على أسس تستبعد من التمتع بثمارها من هو مختلف. وقبل أن نترك العراق لعلنا نشير إلى العملية التي تقوم بها القوات الأميركية في غرب البلاد، تحت مسميات اختلفت من الستار الحديدي (في أول ترجمة أوردتها الإذاعة البريطانية) إلى السياج الفولاذي إلى غير ذلك من الأسماء، والتي اقترنت بتصريحات عنترية مخزية لمن يسمي نفسه وزير دفاع العراق يهدد بتدمير المنازل على النساء والأطفال وهو لا يملك من أمره شيئاً سوى إظهار أعماق نفسه السوداء وعدم اكتراثه بأبناء وطنه إن كان حقاً ينتمي إلى نفس الوطن.

وإذا انتقلنا إلى فلسطين، فإني أريد أن أتوقف عند خبر يفيد بأن والد طفل فلسطيني سقط شهيداً برصاص الإسرائيليين، تبرع فيما نقلت إحدى محطات الإذاعة الأجنبية، بأعضاء ابنه لمساعدة أحد المرضى الإسرائيليين. وبصرف النظر عن أية ملاحظات حول هذا الموقف، فإنه موقف إنساني يجدر مقارنته بموقف الحكومة الإسرائيلية التي تستمر في سياسة القتل والتدمير، والعمل بكل الوسائل لعرقلة المحاولات المخلصة الجادة لإجراء مصالحة تقترب من العدالة في فلسطين يستطيع بمقتضاها الشعب الفلسطيني ـ الذي تعرض للظلم والبغي والاستعمار الذي لا يرحم ـ، أن يقيم دولته الحرة المستقلة على الجزء من أرضه الذي احتل في يونيو 1967 ويعيش فيها سيداً في مأمن من التهديد بالقضاء عليه، وهو الشرط الأساسي لتحقيق الأمن للجميع في الأرض المقدسة التي تدنسها الممارسات العنصرية الإجرامية من جانب حكومة مستمرة في عربدتها تحت حماية «عباقرة القرن الأميركي الجديد» الذين استولوا على السلطة في واشنطن ليسخروها لخدمة أهداف أشد الإسرائيليين تطرفاً وضراوة الذين يعملون ضد المصالح الحقيقية بعيدة المدى لشعبهم. ويوم تستطيع العدالة الدولية أن تباشر دورها فلا أظن أن أحداً من هؤلاء سوف يفلت من المساءلة. وتأكيداً لسوء نيات إسرائيل إن كانت تحتاج إلى تأكيد لعلي أشير إلى التصريحات الرسمية بتأكيد الإصرار على استمرار احتلال الجولان.

محطة أخرى هي ما يحدث في فرنسا من اضطرابات مؤسفة حاول البعض إلباسها ثوباً دينياً في محاولة جديدة ومتجددة للإساءة إلى الإسلام، الذي يتعرض للتشويه من أعدائه المتعصبين كما يتعرض من بعض أبنائه الضالين أيضاً. فقد وضح أن ما حدث يرجع إلى أوضاع اجتماعية غير مستقيمة، وإلى معاملة المهاجرين حتى في جيلهم الثاني والثالث بأساليب تتنافى مع روح فرنسا الحقيقية القائمة على الحرية والمساواة والإخاء. وإذا كان وزير داخلية فرنسا قد لجأ إلى أساليب ديماغوجية وبوليسية لمحاولة كسب ود العناصر اليمينية المتطرفة في سباقه المحموم نحو قصر الاليزيه، فإنه يبدو أن العقلاء من أهل الحكم ـ وعلى رأسهم الرئيس شيراك ورئيس وزرائه ـ قد أدركوا أن الحل هو الجمع بين العدل والحزم، وأن العلاج يكمن في تصحيح أوضاع غير عادلة إنسانياً واجتماعياً واقتصادياً يضمن لمن ساهموا ويساهمون في بناء رخاء فرنسا نصيباً عادلاً في ذلك الرخاء.

ولعلي وأنا أكتب عشية الانتخابات البرلمانية في مصر أن أشير إلى ما أشعر به من تفاؤل (رغم بعض ما حدث وما قد يحدث)، بأن الانفتاح السياسي الذي بدأ بتعديل المادة 76 الذي ستلحقه تعديلات أخرى وعد بها الرئيس مبارك، سوف يؤمن السير بخطى حثيثة في إرساء قواعد حياة ديمقراطية سليمة طالما تمنيناها. ولقد كان من أهداف ثورة 23 يوليو إصلاح ما أعوج أحياناً منها دون أن يمس جوهرها، ولكن الثورة انشغلت عنها بمعارك داخلية كان لا بد منها، وبمعارك خارجية فرض بعضها عليها وفرضت مبادئها البعض الآخر، فتأجل التحرك نحوها مما كانت له من نتائج سلبية. وأشعر أنه رغم كل الصخب والصخب المضاد أن العزم قد صح لدى جموع الشعب المصري ـ مهما اختلفت اتجاهاته ـ لكي نعوض ما فاتنا. وأنا أشعر أن الطرق ـ رغم وعورتها ـ قابلة لأن تمهد، وأننا قادرون على أن نستفيد من الفرصة المتاحة لكي نصحح ما يحتاج إلى تصحيح، ونكمل ما يتطلب الاستكمال، ونرمم ما يحتاج إلى ترميم، نتجاوز أخطاءنا، ونبني مستقبلاً خالياً من أخطاء الماضي وخطاياه، حتى تستأنف مصر عطاءها يتدفق كالنيل على أرضها وعلى منطقتها وأمتها. إن هناك مشاكل كثيرة تحتاج إلى جهد كبير ومخلص ودؤوب يشارك فيه الجميع في حرية وأمان، مشاكل سياسية ومشاكل اجتماعية ومشاكل اقتصادية لا نقبل أن يحاول أحد إخفاءها أو تبسيطها تبسيطاً مخلاً. فأول طريق الحل الاعتراف بوجود تلك المشاكل والبحث عن حلولها بأسلوب علمي رصين يتجاوز الشعارات والأناشيد، ويستند بقدميه إلى أرض صلبة ويمتد بنظرته إلى العالي والبعيد من الآمال الكبار. وقد يكون من المناسب هنا أن أشير إلى ما يسمى موضوع الوحدة الوطنية والفتنة الطائفية، وهو موضوع لا يصح ولا يجوز ولا يفيد أن يعالج بسطحية الموائد والقبلات، بل يجب أن يدرك الجميع أنه يجب أن يواجه بكل الجدية والوطنية والإخلاص. وأول ما نحتاج إليه هو تأكيد مبدأ المواطنة فعلاً وليس قولاً، والإقرار بأن هناك مشاكل حقيقية يجب أن تشخص حتى يمكن معالجتها وهي ليست عصية على العلاج إذا وضحت الرؤية وسلمت النيات، وهو ما يحتاج إلى حوار حقيقي بين العقلاء من أهل العلم والفهم، بعيداً عن أجواء الإثارة والديماغوجية والدعاية التي تخدم مخططات خبيثة تريد أن تنزلنا منازل الهلاك بينما توشك أن تتفتح أمامنا ـ إذا أردنا ـ زهور الأمل.

*وزير خارجية مصر السابق