كلنا نحترق إذن.. وليست باريس وحدها..!

TT

يقول «غوللام بارمنتييه» رئيس المعهد الفرنسي، وهو يبذل جهدا كبيرا لشرح اسباب ومبررات العنف في الغيتوهات التي يعيش فيه المسلمون الفرنسيون: «نحن ضحايا عمارتنا». نعم، لكن العمارة ليست القصة بأكملها، فالانفجار الاجتماعي الذي تعرضت له فرنسا يخضع لمراقبة عصبية من جانب باقي دول اوروبا، بحثا عن أية اشارات لإمكان تحول ذلك الى شيء ليس هو حتى الآن: انتفاضة جهادية من الشباب المسلم ضد جيرانهم المسلمين واليهود، ولكن الجهاد ـ او الافتقار له ـ ليس القصة بأكملها ايضا.

فالفرنسيون والشباب العربي والافريقي الرافض في اوساطهم، هم ايضا «ضحايا» لسياسات الهجرة والدمج المتبعة، وبطريقة غير مباشرة، لنظام الضمان الاجتماعي الوصائي. اعتبرهم ضحايا نوعية معينة من غرور التصحيح السياسي، الذي مارسه السياسيون الفرنسيون لمدة 30 سنة، عندئذ تبدأ في استيعاب الصورة المتكاملة.

الاضطرابات الفرنسية في غاية الاهمية بحيث يصعب تفسيرها عبر عامل واحد. وهي في غاية الاهمية لكي تعامل كنوع من التشفي من جانب الاميركيين، الذين يشعرون بالضيق من الفرنسيين في مجال السياسة الخارجية وغيرها من القضايا. ففرنسا وعاصمتها الجميلة التي تتعرض لمشاكل، نموذج لكل الدول الثرية التي حولت اسلوب تجاهل فقراء العالم الى فن. فالإهمال الجماعي بهم دفعهم ليتجمعوا معا، فيصبح المحرومون ضحايا للمجرمين والمتطرفين الأصوليين أو متواطئين معهم. وبهذا المعنى نحن جميعا فرنسيون الآن، إنها ليست باريس التي تحترق، إنها افريقيا والشرق الأوسط وأجزاء من آسيا وأمريكا اللاتينية، التي تحترق في غيتوات باريس، وفي لندن ومدريد ونيويورك وبالي والدار البيضاء.

فقد ساعد إعصار كاترينا الأميركيين على فهم تفصيلي للعجز القائم على المستوى المحلي والفيدرالي في الرد على حالات الطوارئ بسبب البيروقراطية. ويجب أن توضح أعمال الشغب في فرنسا للفرنسيين، الطبيعة المميتة لمعمار المباني العملاقة التي تحيط بالمدن، التي تضم في رحابها ما بين 5 إلى 10 ملايين مهاجر مسلم مع أبنائهم، ثم يخدعون أنفسهم وكأنهم غير موجودين هناك.

هناك ما يقرب من 300 منطقة مخصصة في ضواحي باريس والمدن الكبيرة الأخرى للمهاجرين، حيث كف رجال الشرطة عن الوصول إليها منذ فترة طويلة. بدلا من ذلك طوروا نظام نقاط التفتيش حول هذه الجزر الخالية من الحياة والمتميزة بارتفاع ابنيتها الموحشة، ثم جعلوا السكان يدافعون عن أنفسهم بأنفسهم.

هذا صحيح، غير ان تعصب الآخرين ليس كل شيء.

فإعانات العاطلين عن العمل التي يوفرها نظام الرعاية الاجتماعية الفرنسي السخي لأولئك الشباب، قد يساعد على شراء الملابس والحاجات العصرية الأخرى التي يعرضها كثير منهم في المقابلات التلفزيونية، لكنها لم تستطع ان توفر لهم قناعتهم بالنظام الذي يغذيهم ويعزلهم. وربما تكون تلك الاعانات قد مكنت هؤلاء الشباب من اتخاذ موقف الازدراء لذلك النمط من العمل الذي جاء آباؤهم الى هنا ليمارسوه كما هو شأن «الفرنسيين» الآخرين.

وأعمال الشغب هي بمعنى ما احتجاج على ما أوجده آباؤهم، (ليس هناك ما يثير الدهشة في الأمر) وعلى الضغوط الهائلة التي تسببها الحياة في مجتمع غربي لبنى العائلة الاسلامية التقليدية، وقد رمى هؤلاء الشباب المولوتوف على النيران الثقافية المضادة التي تحاصرهم، وباتوا لقمة سائغة للمجرمين والجهاديين الذين توجهوا الى الأحياء البائسة لبلد غني وفخور بنفسه.

ولهذا ليس هناك تفسير واحد ولا جواب واحد، فقد ردت الولايات المتحدة البنى العائلية والاجتماعية المنهارة لمسلمي الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بلغة ونيران الحرب. أما الفرنسيون فكان رد فعلهم على التحدي داخل حدودهم يتمثل بالنفاق السياسي والحسنات الاقتصادية. وهناك علاقة بين اخفاقات البلدين أكثر مما يمكن لأي منهما الاعتراف بها اليوم.

* خدمة مجموعة كتاب «واشنطن بوست» ـ (خاص بـ«الشرق الأوسط»)