انتفاضة ضواحي باريس: ترمومتر المعضلة الثلاثية

TT

كشفت احداث العنف التي اشتعلت أخيرا في ضواحي باريس عن حجم فشل دينامية اندماج المهاجرين العرب والأفارقة (واغلبهم من المسلمين) في النسيج المجتمعي الفرنسي، الذين غدوا يشكلون اكبر اقلياته وأكثرهم تهميشا وإقصاء.

ومع ان مطالب المحتجين لم تتجاوز المطالب الاندماجية المألوفة من حقوق تعليم وتشغيل ورعاية صحية، الا ان الانتفاضة الدامية المتواصلة طرحت بقوة الاشكالات الجوهرية المتعلقة بالنموذج الاجتماعي الفرنسي الذي تتشكل خصوصيته المميزة في سمته المركزية اليعقوبية، في مقابل نظام التعددية الثقافية ـ القومية القائم في اميركا ومعادلة المجتمع الاهلي التعددي في بريطانيا. ولقد طرحت هذه الاشكاليات العصية من قبل في سياق الجدل الواسع الذي خلفه قانون تحريم الاشارات الدينية في المدارس الحكومية الذي عرف بقانون الحجاب، كما طرحت في اوج الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، عندما اندلعت موجة دامية من العنف بين الجاليتين اليهودية والعربية في بعض الاحياء الباريسية المشتركة.

فما بينته هذه الاحداث المتلاحقة هو انتقال المجتمع الفرنسي من نموذجه المركزي، الذي بلورته فكريا قيم عصر الانوار، وجسدته مؤسسيا معايير العلمانية الجمهورية منذ صدور قانون الفصل بين المؤسستين الدينية والسياسية عام 1905.

ولقد اوضح هذه الحقيقة العينية الفيلسوف الفرنسي رجيس دوبريه في كتيب طريف اصدره السنة المنصرمة بعنوان «ما يحجبه الحجاب»، مدللا فيه على ان واقع التنوع الثقافي والقومي الذي اصبح السمة الغالبة على الامة الفرنسية يقتضي نمطا جديدا من ضبط وإدارة الرهانات المجتمعية بالإقرار بمعادلة الاختلاف والتعددية، ودفع استحقاقاتها الفعلية، بدل التنكر لها والتحايل عليها بالإجراءات القانونية.

فمن الخطل والخطأ اختزال مأساة الجاليات العربية الاسلامية في فرنسا (المدعوة بالبور Beurs) في موضوع الجريمة، الذي يستأثر على نطاق واسع باهتمام الطبقة السياسية الفرنسية، كما ان تحميلها خلفيات دينية او عقدية خطأ في التحليل ووهم في الرؤية والاستقراء.

الا ان الحالة الفرنسية على خصوصياتها المذكورة ليست فريدة في الساحة الاوروبية او الغربية اجمالا، بل ان احداث الارهاب الفظيعة التي اجتاحت الدول المستقطبة للهجرات العربية الاسلامية، كشفت عن جوانب اخرى من هذه المعضلة، وأبرزها اعتداءات مدريد في مارس 2004 ولندن في 7 يوليو 2005، فضلا عن زلزال 11 سبتمبر وذيوله داخل المجتمع الاميركي.

ومع التشديد على ان احداث الارهاب لا تبرر ولا تستساغ بأي وجه، الا ان الفظائع المذكورة تفسر بكونها اخفاقا خطيرا في مسلك التعايش العربي الاسلامي ـ الغربي في احدى دوائره المحورية (دائرة الهجرة).

ولهذا الفشل اسباب عديدة، ليس هنا مجال بسط القول فيها، وإنما تتعين الاشارة الى معطيات ثلاثة رئيسية تستحق وقفة انتباه.

اولا: لم ينجح النسيج الاجتماعي في الدول الاوروبية في استيعاب الهجرات العربية الاسلامية، بحسب وتيرة الهجرات اليهودية والأوروبية الجنوبية (الجاليات اليونانية والإيطالية) والشرقية (خلال العهد الشيوعي)، فارتبط هذا المكون بالتركة الاستعمارية او الطفرة الصناعية، التي تلت الحرب العالمية الثانية، فبقيت هذه الجاليات المهاجرة في غيتوهات مغلقة. فإذا كانت التركة الاستعمارية لم تحسم في صالح تعويض الاضرار والمآسي التي انجرت عن جرائم الاحتلال، فإن انهيار الطبقة العاملة في العصر الصناعي الثاني قد حكم على الاجيال الجديدة، من المهاجرين العرب والأفارقة بالتهميش والإقصاء (لتقلص الحاجة الموضوعية الى العمالة اليدوية).

ثانيا: لم تتمكن الجاليات المهاجرة من الاندماج الفاعل في مجتمعاتها، بالتحول من نموذج «المهاجر الضيف» الى نموذج «المواطن المنتمي»، فظلت اعتبارات الخصوصية العقدية والثقافية عائقا امام هذا التحول المنشود، دون القدرة على التوفيق بينها ومقتضيات المواطنة داخل سياق مجتمعي مغاير من حيث الخلفيات التاريخية والحضارية لأرضية الانتماء الاصلية.

فمع ان بعض وجوه النخبة الفكرية المسلمة في اوروبا رفعت شعار «الاسلام الاوروبي» ودافعت عنه بصفته اطارا مغايرا لتجارب المجتمعات المسلمة (من ابرز هذه الوجوه طارق رمضان في اعماله الغزيرة المتلاحقة)، الا ان الحقيقة البادية للعيان هي ان الجمعيات والتنظيمات الاسلامية في اوروبا، لا تختلف في شيء عن مثيلاتها في العالم الاسلامي، حيث تنتشر اكثرها ايغالا في التطرف والانغلاق.

ولا بد في هذا الباب من الاشارة الى جهود المجلس الاوروبي للافتاء الذي لا يزال في خطواته الاولى لضبط مدونة حلول المشاكل وتحديات المسلمين في الغرب، بحسب مقاييس «فقه الاقليات» الذي يحاربه الكثير من الفقهاء الجامدين.

ثالثا: تعاني استراتيجية الدول الاوروبية في التعامل مع حركة الهجرة من تناقض حاد بين مقتضيات الانفتاح غير المقيد، لتسهيل حركة البشر والبضائع بحسب منطق العولمة الاقتصادية، وبين الميل للانكفاء على الذات وغلق الحدود لحماية «جزيرة النعيم البيضاء» من قطيع البرابرة الجياع الذين يتهددونها من الخارج.

ولقد عكست قوافل الموت السوداء على الحدود الاسبانية ـ المغربية هذه الحقيقة، وبينت ان المنظومة الكونية لحقوق الانسان تتوقف عند حدود المصالح الحيوية، وان لحركية العولمة ايقاعات ووتائر متباينة، وليست هي بالفضاء المفتوح الموحد.

فانتفاضة الضواحي الباريسية لا تفسر خارج هذه المعادلة الثلاثية التي لخصناها في عوائق الاندماج المتصلة اما بطبيعة النسيج الداخلي للمجتمعات الاوروبية او تركيبة مجتمع الهجرة ذاته.

صحيح ان مشاكل مماثلة واكبت مسار اندماج الجاليات اليهودية والأوروبية الشرقية والجنوبية في البلدان الصناعية الاوروبية، ولكن عوامل الانسجام الثقافي حدت في نهاية المطاف من هذه المصاعب، حتى ولو كانت بعض آثارها لا تزال بادية للعيان.

فالإشكال الكبير المطروح اليوم على البلدان الاوروبية الكبرى التي استقطبت الهجرات الاسلامية الكثيفة، يتلخص في السؤال العصي التالي: هل ثمة موقع داخل نسيج هذه المجتمعات لمكون اسلامي يتشبث بخصوصيته وسماته المميزة ضمن ثوابت ونظم النموذج المجتمعي القائم؟

ومهما كانت الاجابة على هذا السؤال، فإن الحقيقة المؤكدة هي ان المكون الاسلامي قد اصبح بالفعل جزءا رئيسيا من تركيبة هذه المجتمعات، حتى وإن لم يكتمل مسار اندماجه فيها.