خالة فرنسا

TT

ليلة شتوية مزقت بروقها قماشة الليل السوداء بمقصات من نور، وريح مجنونة تقفز بين أشجار الطريق كصبي فقد أحد ساقيه.. جادة «الشانزليزيه» توشك أن تكون خالية إلا من ذلك المسن الذي عرته المياه، فملابسه المبللة التصقت بجسده النحيل فبدا هيكله العظمي أشبه بعلامة استفهام، وصبي المقهى الباريسي يغلق في وجهه الباب لولا أن ثريا عربيا رقَّ لحاله فتعهد بدفع تكاليف بقائه داخل المقهى ريثما يكف المطر عن الهطول.

حينما دلف الرجل إلى الداخل كان يرتعد كمروحة يدوية في كف امرأة عصبية داهمتها ظهيرة قائظة، وقد نزفت ملابسه قطرات مائها كساقية مرهقة.. رمى بنفسه على أقرب كرسي، داسّاً يده في جيبه ليشعل لفافة تبغ لها رائحة الزكام، وقد اختلط الدخان ببياض لحيته بضجر رواد المقهى بنظرات النادل العدائية.. وحينما فرغ الرجل من تدخين سيجارته جال بنظره على كل الوجوه قبل ان يستقر بها على وجه النادل المتجهم، ليتبعها بعبارات فرنسية جعلت النادل يستشيط غضبا، وهو يقذف في وجه الرجل بكلمات متقاطعة ربما كانت من أبلغ قاموس السباب الفرنسي.. لم يُعِر الرجل بالاً لما كان يردده النادل، وانتصب واقفا مقتربا من الطاولة التي كنت أجلس بقربها مع مجموعة من الاصدقاء قائلا: «أنا أخوكم زياد من المغرب العربي، جئت إلى هذه البلاد قبل أن تقذف تلك المرأة الفرنسية بهذا النادل الشقي إلى الدنيا.. جئت فرنسا أيام الرجل العظيم شارل ديجول الذي كان يردد دائما: «لا يمكن لأي كان أن يضع فرنسا في حقائبه»، كما يريد ان يفعل هذا النادل اليوم، فلقد كان ديجول فرنسا، وفرنسا ديجول .. ولم أستطع أن أتابع كلمات الرجل، فلقد حمل قسرا إلى خارج المقهى تجلده الصواعق والزوبعة وزخات المطر.

أتذكر الآن تلك الليلة البعيدة وشاشات الفضائيات تمطر مظاهرات وشغبا وحرائق في أكثر من تسعين مدينة وبلدة فرنسية، ووزير الداخلية الفرنسي يصف فعلة تلك الاحداث بالأوباش، ولست أدري إن كان ذلك الرجل المسن الذي شاهدته في تلك الليلة الشتوية البعيدة قد امتد به العمر ليكون ضمن أولئك «الأوباش»، أم أن ضمن هؤلاء ربما كان ابنه أو حفيده، فالاحتقان الذي عبر عنه الرجل في تلك الليلة ربما انفجر اليوم غضبا.

فهل ستستطيع فرنسا، بلد فولتير وموليير وديجول والثورة الفرنسية وإعلان حقوق الإنسان، أن تخرج من أزمة الجياع والمهمشين أو المهاجرين هذه، محتفظة بروحها الفرنسية التي تتسم بالانفتاح والمُثل واحترام الحريات، أم أنها ستغرق كغيرها في أتون رؤى اليمين المتطرف الذي يستثمر الأزمات لنفي الآخر والانغلاق على الذات؟ ليخسر العالم فرنسا، وفرنسا توشك أن تشكل رئة العالم المتبقية التي يتنفس من خلال مبادئها نسائم حريته.

[email protected]