من المغرب: أميركا والعرب في حوار الدين والدولة

TT

في الدار البيضاء حيث كنت الاسبوع المنصرم، حضرت الندوة الثانية من ندوات الحوار العربي الأميركي بصحبة أصدقاء أعزاء من ألمع المفكرين العرب وجمع متميز من الساسة والمفكرين الأميركيين، من التيار المحافظ (وليس المحافظ الجديد) في الغالب.

وكنت شاركت في الندوة الأولى التي عقدت بمالطة في شهر مايو السنة الماضية، وكان الحوار آنذاك عاما دون تدقيق، وحواجز التفاهم وعوائقه جمة، فكانت نتيجة اللقاء محدودة، ضيقة.

أما الندوة الثانية فقد جرت في ظروف مغايرة، وإن شاركت فيها الوجوه نفسها تقريبا (غابت الشخصيات السورية التي شاركت في لقاء مالطة وحضرت وجوه بارزة من المملكة العربية السعودية والمغرب)، كما اختار لها معهد القيم الأميركية الذي أشرف على اللقاء بالتنسيق مع مؤسسة الملك عبد العزيز للدراسات في الدار البيضاء موضوعا هاما وملحا راهنا هو إشكالية الدين والسياسة في السياقين الأميركي والعربي.

وليس من همنا عرض وثائق الندوة ومحاضراتها الهامة، ولا تلخيص حواراتها الثرية التي جرت بعيدا عن أعين وسائل الإعلام وجلبة السياسة، وإنما حسبنا الإشارة إلى ابرز الإشكالات التي استأثرت باهتمام الحاضرين، وهي إشكاليات ثلاث، نقف عندها باقتضاب.

أولاها: طبيعة الشرعية السياسية ومصدرها في السياقين الأميركي والعربي الإسلامي، ولهذا الموضوع صلة مباشرة بالديمقراطية مفهوما وممارسة.

فالسؤال الكبير الذي طرحه محاورونا الأميركيون هو هل استطاع النسق السياسي العربي المستند للمشروعية الإسلامية استيعاب القيم الليبرالية الحديثة التي هي أرضية ونقطة ارتكاز النظام الديمقراطي الحديث؟ وهل تخلص هذا النسق من خطري الانغلاق في استبدادية الحكم الشمولي المطلق والتيوقراطية الكليانية المستندة للشرعية الدينية؟

وقد تمحور الحوار في هذا السياق حول مقولات ومفاهيم الفكر السياسي الإسلامي، بالتمييز بين التقليد الوسيط الذي ترجمته فكريا وتشريعيا الأحكام السلطانية وتجربة ما أصبح يدعى بـ «الإسلام السياسي» الحديث الذي قام على مفهوم «الحاكمية الإلهية» بما يقتضي هذا المفهوم من استتباعات على مستوى يفي مبدأ «سيادة الأمة» وإطلاق حرية الإرادة الفردية في العقد الاجتماعي.

وقد كان من الجلي أن الطرف الأميركي عاجز عن التفكير في مسألة الشرعية السياسية في السياق الإسلامي خارج مقاييس التجربة المسيحية الغربية الوسيطة، وهو الأمر الذي اجتهد المفكرون العرب الحاضرون في إبراز زيفه، مبينين الطابع التاريخي غير الملزم لنموذجي الفقه السلطاني والإسلام السياسي، مؤكدين أن مسائل الإمامة والحكم هي في الغالب من الأحكام الظنية الاجتهادية، التي ليس فيها من الثوابت سوى مبادئ العدل والشورى بصفتها حدودا قصوى منظمة لمجال الحكم.

أما الإشكالية الثانية فتتصل بخصوصية المسألة الدينية في المجتمع الأميركي داخل السياق الغربي الذي تطبعه السمة العلمانية.

فمع أن هذا المجتمع لائكي لا تحكم للدين فيه في السلطة السياسية ولا في النظم المؤسسية والتشريعية، إلا انه يختلف بجلاء عن غيره من المجتمعات الغربية الحديثة من حيث طغيان الرمزية الدينية على مختلف أوجه النسق الاجتماعي وقوة تأثير المؤسسة الدينية بصفتها ركيزة المجتمع الأهلي وعمق تدين الفرد الأميركي العادي.

وقد نبه إلى هذه الخصوصية المفكر الفرنسي ألكسين دتكوفيل منذ القرن الثأمن عشر في كتابه «الديمقراطية الأميركية» رابطا بين التدين الأميركي ونمط الليبرالية القائمة في مجتمع قائم منذ بدايته على التنوع الديني.

ومن المفارقات المثيرة، ان المشاركين الأميركين في لقاء الدار البيضاء ومن بينهم بعض أكبر أساتذة القانون والعلوم السياسية قد دافعوا بقوة عن أطروحة «الديمقراطية الدينية» في مقابل التقليد العلماني الأوروبي (الفرنسي على الأخص)، في حين ذهب بعض المشاركين العرب إلى الدفاع عن «لائكية اسلامية» خالصة، معتبرين انها التعبير الأسلم عن نظرة الاسلام للشأن السياسي بصفته شأنا تدبيريا يحفظ للأمة حقوقها ومصالحها. بيد ان زملاءنا الأميركان (ومن بينهم بعض الرموز الفكرية القريبة من دائرة القرار) لم يستطيعوا الرد بدقة وموضوعية على تخوفات محاوريهم العرب من تحكم الأصولية المسيحية في القرار السياسي الأميركي في عهد الرئيس بوش الابن الذي لا يخفي انتماءه الديني ولا أثر هذا الانتماء في مواقفه السياسية.

أما ثالثة الإشكاليات فتتعلق بالنموذج العراقي الذي أرادته الولايات المتحدة الأميركية مختبرا إقليميا للإصلاح السياسي في المنطقة، وقد كانت محاكمة المشاركين العرب صريحة وقوية لأخطاء قوات وإدارة الاحتلال في تسييرها للشأن العراقي، الذي لم يعد أحد ـ سوى الأميركيين المتعصبين ـ يقدمه مثالا للاحتذاء، بعد أن أصبح من الجلي أن هذا النموذج يتأرجح بين ثلاثة خيارات مأساوية هي: الاستبداد الأثوقراطي والفتنة الطائفية والعرقية والتقسيم الفعلي.

وقد ذهب بعض المشاركين إلى القول إن الولايات المتحدة تقوم التجربة العراقية ايجابيا، على الرغم من الخسائر التي تكبدتها، ومنظور كونها قد سمحت بضرب الأصولية السنية (القاعدة وعصابات الزرقاوي) بالأصولية الشيعية، وخلفت واقعا طائفيا مشتعلا سيحول موضوعيا دون اندماج إيران في الفضاء الإسلامي الشرق أوسطي الذي يهيمن عليه السنة.

وحاصل القول إن لقاء الدار البيضاء الذين اتسم بالصراحة والجدية، لئن مكن من طرح الإشكالات والأسئلة الجوهرية التي تشغل بال النخبة الأميركية والعربية، إلا انه بين حجم المسافة والقطيعة المتزايدة بين الطرفين في مرحلة أصبحت بها الولايات المتحدة منذ احتلال العراق لاعبا إقليميا فاعلا من داخل النظام العربي ذاته.