جدلية الموت والرفض: بين مقتل العقاد .. ومواقف ساجدة وروزا باركس

TT

مع كتابة هذه الرسالة يكون مصطفى العقاد المخرج السينمائي لفيلم الرسالة وعمر المختار، والذي كان يخطط لفيلم صلاح الدين الأيوبي، قد مات ومعه ابنته بعمل انتحاري فتناثر مع العشرات في أشلاء ركضا إلى العالم الأخروي. ويذكرني تدافع الموتى بمنظر الناس وهم يخرجون من بوابة المطار بأعمار وأعراق وأجناس شتى، منهم المتعب والشيخ والعجوز والحبيبة، وزوجتي التي سبقتنا إلى ذلك العالم تتعجب الآن كيف أن الله أضحك وأبكى وأمات وأحيا. وكيف أن عمر الإنسان قصير، ولكن هناك من هو حريص على تقصيره أكثر.

ولكن بقدر سحق الطبيعة للأفراد كما يقول الفيلسوف شوبنهاور، بقدر عناده وتصميمه على الحفاظ على النوع.

والعقاد مضى إلى ربه ليس كما ماتت زوجتي حين كف قلبها عن الخفقان في موتة طبيعية، بل طار في الجو مع ابنته بحزام ناسف، فقد ضاقت الأرض على الناس وضاقت عليهم أنفسهم من التوتر العالمي.

ولكن لماذا يحدث كل هذا؟ هل من يأتي لينسف نفسه يحب هذا الشيء؟ أم أنه وصل إلى الحافة التي لم ير فيها خلاصا لروحه إلا أخذ أرواح أكبر قدر من الناس معه إلى الآخرة؟ فأي ثقافة مرعبة هذه التي نعيشها؟

لم نعد نعيش ثقافة الرحمة بل القسوة والغلظة، ليس التسامح بل التعصب، وكله يسم روح العصر المادي الذي نعيشه، فوجب استنفار النفس للتبشير بالسلام، وما تخيلناه قبل ثلاثين سنة في أشد صور الكوابيس لا يصل إلى عتبة ما نراه اليوم.

ويبدو أن العالم العربي برمته يمشي باتجاه التفسخ مثل جثة الميت، فحان الحين لانبعاث روح عظيمة وانقلاب العصر من المادية إلى الروحية، كما جاء ذلك في كتاب العبقرية والإبداع لكيث سأمنتون.

وكما كانت ممارسة الرياضة دفع البدن لحافته القصوى وتحمله الأعظم، كذلك وجب أن تكون التربية الروحية في صقل الروح باتجاه الكمالات.

وبين هذه الأساليب مواجهة الاعتقالات في الأنظمة الشمولية؛ فيجب أن نستعد لها، ولا نخاف منها ونهرب؛ بل هي مناط الخلاص وحقل التربية، وخروج جيل قديس طاهر يمكن أن يعدل إن حكم ويقول صدقا ان نطق.

ولا يستطيع أي نظام من أن يعتقل ربع الأمة ولا عشرها، فيجب تحطيم السجن من داخله وتوريط النظام بمزيد من الاعتقالات ولكن من خلال نضال سلمي. وذلك يصلح في مثل هذا الجو الذي نعيشه، فلم يبق إلا منافق عليم اللسان، وخائف ساكت، ومتملق للسياسة، وقالب للحقائق بدون أن ينتبه أحد إلا المتخصصين، وهو ما قاله القرآن عن كتمان الحق ولبس الحق بالباطل وأنتم تعلمون.

والذي دفعني إلى هذا الكلام الأسلوب الذي جرى في عمان لحل المشاكل في منتصف نوفمبر، وعرض ساجدة عتروس العراقية في الفضائيات التي لم ينفجر معها حزام الأمان، وبين السوداء (روزا باركس) في الأسلوب النبوي في التغيير بالعصيان المدني، مما عجل بحل المشكلة السوداء في أميركا. فهذه امرأة فهمت القرآن والإسلام بدون أن تقرأ آية، وتلك كما فعل الخوارج من قبل يقرأون القرآن كما تمر حشرة العثة بين الأسطر.

وهذه القصة جديرة بالذكر لإنارة العقل العربي بأساليب الكفاح السلمي بدون نحر أو انتحار أو نسف أو قتل.

وقبل فترة دفع قبل أيام متحف هنري فورد في مدينة ديربورن في ولاية ميشغان مبلغ 492 ألف دولار للحصول على حافلة قديم يعود لمدينة مونتغمري في ولاية ألباما الجنوبية، عمره أكثر من أربعين عاما. قديم مهترئ، قد أتى عليه الصدأ. وقد تتساءلون، ما الشيء الثمين في هذا الحافلة القديم. ليس الحافلة الذي بحد ذاته ثمينا، ولكن هذا الحافلة كان الموقع لمشهد غير تاريخ أميركا. ففي عام 1955، في بداية شهر ديسمبر، استقلت روزا باركس، الخياطة التي كانت تعمل في أحد المتاجر، الحافلة لتعود إلى البيت بعد عمل يوم مضنٍ. وهناك داخل الحافلة، وجدت مقعدا فارغا، فذهبت وجلست فيه. ولكن بعد قليل دخل ركاب آخرون. ووقف أمامها رجل متوقعا أن تقوم هي لتعطيه مكانها، قلبا للعادة والأعراف في كل مكان في العالم، من أن الرجل هو الذي يقوم للمرأة. ولكن في هذه الحالة، كان الرجل يتوقع العكس، ولسبب بسيط. فقد كان هو أبيض وكانت روزا باركس سوداء، وكان هذا هو القانون في الخمسينات في هذه المقاطعة وغيرها من المقاطعات الجنوبية: أن السود يتخلون عن مقاعدهم للبيض، وأن عليهم الدفع من الباب الأمامي ثم التراجع والدخول إلى الحافلة من الباب الخلفي. وكثيرا ما كان سائقو الحافلات يقفلون الباب ويتركون الركاب السود على حافة الطريق بعد أن يكونوا دفعوا.

في هذه الأمسية كان السيل بلغ الزبى عند باركس، فقررت أن تعمل شيئا بسيطا للغاية، وهو أن لا تقوم للرجل. فقط أن ترفض الخضوع لهذا القانون العنصري الجائر. وهاج الناس، وتوقف سائق الحافلة، ولكن باركس رفضت التحرك من مقعدها. كانت مصرة على العصيان، وبكل هدوء ومدنية أيضا. بعد دقائق وصلت الشرطة وألقت القبض عليها لخرقها لقانون الولاية، لكنها كانت مستعدة لكل شيء. وفي كتابها «القوة الهادئة» (Quiet Strength) الذي صدر في عام 1994، كتبت باركس: «ظللت أفكر بأمي وبأجدادي، وكيف كانوا أقوياء، وكنت أدرك إمكانيات الإهانة، ولكني أيضا شعرت أني أعطيت فرصة لعمل شيء أتوقعه من الآخرين». بعد هذا العصيان الذي قامت به روزا باركس تغير تاريخ أميركا، لأن محاكمتها استمرت 381 يوما وانتشرت أخبار القضية في كل مكان، وقاطع السود المواصلات وصعود الحافلات لمدة سنة، وخلالها بدأت حركة الحريات المدنية للسود. وفي النهاية قررت المحكمة أن قانون ألباما في إعطاء الأولوية للركاب البيض ضد الدستور الأميركي، ولكن كان هذا بعد أن اشتعل البلد، ودخل إلى مرحلة اضطر فيها أن يراجع القوانين التي تعامل السود كمواطنين أدنى. كان كل هذا قبل أقل من نصف قرن، وفي وسط مجتمع يدعي الإنسانية والمساواة.

روزا باركس أصبحت امرأة عجوزا في الثأمنة والثمانين من عمرها عندما بيع الحافلة الذي قررت فيه عدم طاعة الظالم بنصف مليون دولار، وسيوضع في المتحف ليأتي الناس ويتذكروا الخطوة التي بدأت حركة حريات السود وحقوقهم. قبل نصف قرن، وفي تلك اللحظة التي أحاطتها الشرطة، هل تخيلت أن الحافلة الذي كانت تجلس فيه سيتحول إلى رمز تفخر به أميركا؟ تقول باركس في كتابها أنها تريد أن يعرف القراء أن إيمانها بالله وقوتها الروحية هي التي جعلتها تعيش وتتصرف بهذا الشكل، وأنها لم تكن مركز الحدث، بل كانت جزءا من الحركة ضد العنصرية والظلم.

هذه امرأة واحدة غيرت مجرى التاريخ. ولذا يجب أن لا نستخف بالقوة العجيبة الكأمنة والرابضة في الإنسان، والتي تخرج وتنير العالم عندما يقرر الإنسان أن ينتصر أخلاقيا حتى قبل أن تبدأ المواجهة. عندما يقرر أن لا يمد يده على أحد. عندما يقرر فقط أن يرفض طاعة القانون الظالم.

عندما قرأت قصة روزا باركس وكيف أعطاها إيمانها بالله جرأة العصيان في وجه الظلم تذكرت آية: «لا تطعه واسجد واقترب». إن عدم طاعة الباطل، هي نوع من العبادة والتقرب إلى الله. خطوة صغيرة، ولكنها هي التي تضعنا على طريق النصر الفعلي. أليس هذا ما فعله أيضا بلال الأسود عندما كانت قريش تعذبه لأنه تجرأ أن يخرج عن دينها، وكان المسلمون أقلة. لم يؤذ أحدا. كان فقط يقول وهو تحت الصخر: «أحد! أحد!».