أحداث باريس: بين منهجي الغموض والابتذال

TT

تلعب اللغة دورا أساسيا لدى الفرنسيين في ثقافتهم وممارستهم للسياسة، إلا أن المفردات خذلتهم على مدى ثلاثة أسابيع من أعمال العنف التي تركت أثرا سلبيا على صورة فرنسا، فقد وصف سياسي مثيري أعمال العنف والشغب بـ«الأوباش». حالة عدم التوازن اللفظي هذه أفرزت إحساسا بوجود أزمة وطنية، فيما خاطب أخيرا الرئيس شيراك الفرنسيين مباشرة عبر شاشات التلفزيون يوم الاثنين، بعد أن ظل متواريا عن الأنظار منذ اندلاع أعمال الحرق والتخريب لأكثر من أسبوعين، فاعترف بأن البلاد تواجه أزمة هوية.

ليس ثمة شك في أن هذا يعتبر اعترافا مذهلا من زعيم ظل يؤكد، على نحو متكرر، أحقية فرنسا في قيادة أوروبا والسياسة العالمية على حد سواء، فأضفى هذه الاعتراف طابعا رثائيا على كلمات شيراك التي قالت وسائل الإعلام الفرنسية إنها جاءت بعد فوات الأوان.

كانت هذه الانتقادات في حد ذاتها مؤشرا على تراجع حدة أعمال العنف بصورة كبيرة هذا الأسبوع. ولكن الشعور بهذه العزلة عن المجتمع الذي يعيشون فيه، أمر تصعب مناقشته بالنسبة للفرنسيين. ذلك أن الساسة، يمينا ويسارا، الذين يشعرون بمخاوف إزاء إثارة توتر اجتماعي، آثروا إما التزام الصمت أو المداورة في الحديث في ما يتعلق بغيتوهات المسلمين التي انتشرت في أطراف العاصمة باريس والمدن الفرنسية الأخرى. لغة الغموض والمراوغة، كما يقول الفرنسيون، كلفت الطبقة السياسية الوطنية مصداقيتها مع الناخبين الفرنسيين على مدى العقدين السابقين، فيما امتلأ الخطاب السياسي السائد بالابتذال، مثلما هو الحال في «المنيفيستو» الخاص بأوروبا الذي أعلنه شيراك قبل يوم من اندلاع أعمال الشغب. فقد وعد شيراك بأنه «سيحيي من جديد المبادرة الأوروبية»، وتعهد أيضا بأن فرنسا ستعمل خلال الأسابيع القليلة المقبلة على ألا تصبح فرنسا «مجرد منطقة تجارة حرة».

هذه الأولويات لا تمت بصلة الى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الراكدة التي ساعدت في اندلاع أعمال الشغب، ولا بأي شيء في أذهان الناخبين الفرنسيين الذين رفضوا مسبقا نموذج شيراك لأوروبا في الاستفتاء الذي جرى في مايو (أيار) الماضي.

وتؤثر مشكلة اللغة أيضا على عملية البحث عن حلول. ولأنهم لا يعترفون بالأقليات الدينية والعرقية ـ فإن كل مواطن فرنسي بالتالي يعامل، نظريا، نفس المعاملة ـ ولا توجد للفرنسيين عبارة متفق عليها لبرامج خفض المظالم الاجتماعية. وأكثر الترجمات انتشارا لعبارة التصرفات التمييزية هي التعبير المتناقض «التفرقة الإيجابية». وهذه واحدة من المرات القليلة التي لا يجد الفرنسيون فيها كلمة للتعبير عن موقف. غير أن ما لديهم هو سياسيان محافظان طموحان في صراع مرير لخلافة شيراك الذي ربما يحول تركيزه الآن الى طريقة تصرفهما وحديثهما في مثل هذه الأزمة. ويبدو وجود الرئيس بعيدا عن الضوء كنوع من التكتيك ـ لإعطاء رئيس الوزراء دومينيك دو فيلبان، الخليفة المفضل لشيراك، فرصة لإظهار أنه يسيطر على الموقف. إن بلاغة دو فيلبان الخطابية في البرلمان، والمزيج بين الحسم والتعهد بمزيد من العدالة الاجتماعية، قد زادا من شعبيته في الاستطلاعات على حساب منافسه المتشدد وزير الداخلية ساركوزي. وكان ساركوزي يتمتع بشعبية كبيرة بسبب دعوته للانفصال عن سياسة شيراك الراكدة، وبسبب سمعته بالتحدث بصراحة عن مشاكل فرنسا، بما في ذلك الظروف الصعبة المنتشرة في مدن أحياء المهاجرين. إلا أن إدانة ساركوزي للمتظاهرين، ووصفهم بأنهم «أوباش»، وتهديده بفتح خراطيم المياه القوية عليهم مثل الهوام، أتاحت لمعارضيه اتهامه بأنه يثير الاضطرابات أو يزيد من حجمها باستخداماته اللغوية.

وربما يعاقب المقترعون الذين كانوا يطالبون بلغة صريحة من قادتهم، ساركوزي بسبب هذه التجاوزات في الانتخابات الرئاسية القادمة، بعد 18 شهرا. إلا أن سياسة ساركوزي التي كانت مقنعة في مواجهة سجل شيراك وتجاهل دي فيلبان تبدو أقل وضوحا حيث جعلت هذه الأزمة رئيس الوزراء يبتعد عن ظل زعيمه المتلاشي والعثور على لغة سياسية خاصة به.

* خدمة «مجموعة كتاب واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»