السودان: البداية العملية للوصاية الدولية!

TT

في التاسع من يناير (كانون الثاني) القادم تكمل اتفاقية السلام السودانية عاماً على بدء سريانها. وكان من المفترض خلال ستة أشهر منذ ذلك التاريخ، وهي فترة اطلق عليها مسمى الفترة التمهيدية، انجاز كل الترتيبات المعنية بتنفيذ الاتفاق بما في ذلك تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، إلاَّ ان كل تلك الفترة مضت دون تحقيق أي انجاز يذكر، وحتى اداء د. جون قرنق القسم نائباً للرئيس تم في الشهر السابع وهو ذات الشهر الذي قتل في الثلاثين منه. ومع ذلك اتكأت الحكومة والحركة الشعبية في تبرير اهدار الزمن دون انجاز الى وفاة قرنق!، وحتى هذه اللحظة فإن الكثير من ترتيبات الفترة الانتقالية لم ينجز بعد. ولعل هذا ما جعل المجتمع الدولي يشكو من بطء التنفيذ فضلاً عن الخشية من الفشل في الالتزام بمستحقات الاتفاق الذي انطوى على الكثير من التعقيدات!.

لا نريد ان نعدد الكثير من ما تأخر انجازه، ويكفي ان نشير الى بعض ما شكت منه الأمم المتحدة وهو لا يتعلق بالبطء في التنفيذ فحسب وانما في ما يكتنفه من تعقيدات تبدو عصية على الحل. فقد نصت اتفاقية السلام على حل كل المليشيات أو دمجها في الجيش السوداني والحركة الشعبية، وهذا أمر لم يحدث حتى الآن، فالمليشيات العسكرية في الجنوب لا ترى عدالة في نص هذه الاتفاقية، لأنها كانت خصماً لجيش حركة تحرير السودان وهي بالتالي ترفض الانخراط فيه، وترفض حل نفسها.

بل بعضها يعتقد ان الحل المنطقي هو خلق جيش جديد يسمى جيش جنوب السودان تشارك فيه كل المليشيات بأوزانها وأوضاعها القبلية، وهذا ما لا تقبل به الحركة استناداً الى الاتفاقية! والتشدد في المواقف من الجانبين لن يقود إلاَّ لحرب أهلية جديدة خاصة بين مليشيا قوات دفاع جنوب السودان وهي اقوى المليشيات وتنتمي إلى قبيلة النوير وجيش الحركة الذي في غالبه الأعم ينتمي إلى الدينكا. وقوات دفاع السودان هذه هي التي تحرس الآن مواقع انتاج البترول وظلت تحرسها طوال فترة الحرب. وكانت حليفة للحكومة. ولكن الحكومة ليس بوسعها اقناع أو إرغام هذه القوة بالذوبان في جيش الحركة أو الانخراط في الجيش السوداني لكونها قوة لها مطامح ان تكون جزءاً مؤثراً في حكم الجنوب. وهذا المنطق بكل ما فيه من وجاهة ليس مقنعا للحركة بأن الحكومة ليس في وسعها دمج هذه القوات في الجيش السوداني أو تسريحها بقدر ما ترى في الحكومة معضداً لها. والحركة بذلك تتهرب من قوة المنطق الذي يقول بوجوب حل جيش الحركة وتأسيس جيش لكل جنوب السودان تنخرط فيه كل المليشيات بأوزانها وحيثياتها.

ولعل ما يقال عن مليشيات الجنوب يمكن ان يقال عن قوة الدفاع الشعبي، فهي الأخرى قد أصدرت بيانا تحتج فيه على تصريحات لمسؤولي بعثة الأمم المتحدة طالبت بتسريح او دمج قوات الدفاع الشعبي في الجيش السوداني وناشدت في بيانها المجتمع الدولي بترك السودانيين وحدهم يقررون حل جميع قضاياهم، وهي مناشدة لا معنى لها لأن القوات الدولية المقدر عددها بعشرة آلاف جندي قد وصل ثلثها بالفعل للسودان، وذلك بسبب عجز السودان عن حل قضاياه بنفسه! وهذه القوات تجيء الى السودان بقرار من مجلس الأمن وتحت الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة ما يعني انها قوات مخولة للتدخل العسكري ولذلك قال رئيس لجنة نزع السلاح والدمج التابعة لهذه القوات في مؤتمر صحافي في الخرطوم قبل ايام: ان الأمم المتحدة ترفض وجود مليشيا مسلحة خارج نطاق القانون، وأكدت الناطقة باسم المنظمة: ان نشاط المليشيات المسلحة في الجنوب يؤثر على خطط نشر قوات وموظفي الأمم المتحدة وعمليات اعادة الاعمار وجهود تنظيف الطرق، ولهذا فإن المنظمة تطالب بحل او دمج المليشيات في الجنوب والخرطوم ودارفور.

ولا ريب ان بيان قوات الدفاع الشعبي وهي قوات تابعة للحكومة يعيد الى الأذهان ما سبق ان اشرنا اليه في مطلع العام عندما اجاز مجلس الامن القرار 1595 والقاضي بإنشاء هذه القوات، اذ ابدينا استغرابنا لإجازة هذا القرار دون أية اعتراضات او تحفظات من الحكومة عليه، بينما كان القرار ببنوده التي تجاوزت المائة بند يعد بمثابة فرض وصاية على السودان، وتشككنا في ان الحكومة لم تمعن النظر مليا، ولعل بيان قوات الدفاع الشعبي يؤكد صحة شكوكنا، لأن الصلاحيات الممنوحة لهذه القوات ولبعثة الأمم المتحدة بموجب هذا القرار تفوق حد الوصف بما في ذلك إنشاء الاذاعات والتلفزة والصحافة وكل ما قد يخطر على البال. ولهذا ننصح الحكومة بنشر كل تفاصيل هذا القرار الذي يقع في خمس وثلاثين صفحة فلسكاب حتى يدرك الجميع ما ينطوي عليه من وصاية فعلية على السودان وحتى يمكن التعامل معه دون اصطدامات مع مجلس الامن قد لا تحمد عقباها!

لقد ابدى كثير من المعلقين السياسيين السودانيين من قبل دهشتهم واستغرابهم لتدخلات ايان برونك ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في السودان في كثير من شؤون النازحين والسكن العشوائي وما الى ذلك من مسائل متعلقة بمفاوضات ابوجا وغيرها الى درجة نعتوه بلقب «الحاكم العام المكلف» من باب التعجب من تدخلاته حتى في شؤون العاصمة السودانية، وما فطنوا الى ان الرجل ليس متطفلا، وانما هو رجل مخول حسب نص القرار 1590 ليتدخل في معظم امور السودان وهو يستحق ذلك اللقب عن جدارة لو قرأ كل متابع للشأن السوداني بتمعن وروية حيثيات القرار 1590.

وفي الختام لا بد ان يلاحظ القارئ اننا استعرضنا فقط مشكلة واحدة من المسائل المعلقة الا وهي مشكلة المليشيات وما يتعلق بها من تعقيدات ان بالنسبة للحكومة والحركة الشعبية وهي مشكلة آن أوان استحقاق حلها بالنظر لما لها من صلة عضوية مباشرة ومهمة بالنسبة لقوات الأمم المتحدة ومع ذلك فهناك الكثير المتعلق بالترتيبات الأمنية، وهناك مسألة تبعية منطقة ابيي والنزاع حولها جعلها قنبلة موقوتة! وهناك ايضا المفوضيات التي لم تنشأ بعد، فضلا عن قسمة السلطة في حصص الجنوب في الخدمة المدنية وهي حصص تقارب ثلث الوظائف، وحتى الآن ليس واضحا المعايير التي ستطبق بالنسبة للجنوبيين الذين سيشغلون هذه المواقع، واين سيذهب الذين يحتلونها الآن؟

ولعل الطامة الكبرى ان عاما من عمر الاتفاقية أوشك ان ينقضي وعلى الصعيد العملي لم يلمس المواطن الجنوبي اي تحسن في معاشه او اي انجاز بالنسبة لعودة النازحين او اللاجئين. وهنا يتحمل المجتمع الدولي القسط الأكبر من المسؤولية لأنه لم يقدم المعونات التي الزم نفسه نظريا بها متحججا بأنه يربط تقديم المساعدات بحل ازمة دارفور مع انه لم يفعل من قبل شيئا لحلها ولم يربطها بقضية الجنوب في المبتدأ، بل حاول حصر كل الجهد في الوصول الى اتفاق سلام الجنوب، ويخشى ان يؤدي هذا الربط الى انهيار الاتفاق الماثل والحيلولة دون الاتفاق المرتجى!