لبنان: وطن أم مجرد «بوابة»..؟

TT

«أميركا وأوروبا تنظران، تاريخياً، إلى لبنان على أنه بوابتهما إلى الشرق الأوسط»، هذا كلام للسيدة اليزابيث ديبل، نائبة مساعد وزيرة الخارجية الأميركية، قالته في بيروت الأسبوع الماضي، وسبقت به بأيام قلائل، الاتهامات التي وجهها الرئيس السوري بشار الأسد إلى الدور اللبناني (الأسود) بحق سوريا والعروبة. لكن لا كلام ديبل الملغوم يجب ان يؤخذ بحسن نية، ولا اتهامات الرئيس السوري التي صوبت نحو اللبنانيين، كنار قذفت من فوهة بندقية، هو مما يستحق أن يؤخذ بجدية.

إذ لم تخف فرنسا، مثلاً، في أي يوم، استراتيجيتها في استخدام لبنان طوال العقود الماضية كبوابة لعبور سياستها الفرنكوفونية إلى العالم العربي، وقد دفعت لذلك ميزانيات، ربما كان أحق بها مواطنوها الفقراء من أصل عربي. لكن الجشع السياسي لا يعترف بالابعاد الإنسانية، والوجود السوري في لبنان لم يعترض على الحظوة اللبنانية لدى الدولة الفرنسية، بل رعاها واستفاد منها، وتدلل في ظلها.

والكلام على الوطن «البوابة» سورياً وأميركياً، ليس وليد الساعة. فقد خدم «الرجل الجسر» المرحوم رفيق الحريري كوزير خارجية للبلدين معاً، ولم تكن سوريا لتمتعض، حين كانت تمتلك مفاتيح البوابة، وتعين حراسها، وتحدد مواقيت فتحها وإغلاقها. بهذا المعنى الدور اللبناني لم يتغير، والوطن «المعبر»، الذي طالما تباهى بدوره بين الشرق والغرب، لم يفقد وظيفته العتيقة على ما نسمع ونرى (وهو ما راهن عليه الحريري وسخر منه البعض) وإن تبدلت ربما نوعية البضائع المراد تمريرها. فليست المشكلة أن يكون لبنان «مفترق طرق» بقدر ما تأتي الأهمية، من الرؤيا اللبنانية نفسها لهذا الدور.

لبنان يستطيع بسهولة أن يتحول إلى «ممر ومصنع وممول» للمؤامرات ضد سوريا، لو أراد، لكنه ليس كذلك الآن، ولا يبدو أن النية كامنة أو مبيتة. وكلام الرئيس بشار الأسد استباقي على الطريقة البوشية، وهو جارح ومدمر لعلاقة شعبين جارين. كما أن التهجم على رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة ونعته بأنه «عبد مأمور لعبد مأمور» مع كل ما يتمتع به من شعبية وتعاطف كبيرين من الشعب اللبناني، ورغم ما هو معروف عنه من شغف بالعروبة وأهلها، يبدو وكأنه من باب شراء العداء بالمجان، وبالتالي التخلي عن الرغبة في استثمار «البوابة» اللبنانية، وتركها للريح المقابلة، تعصف بها كما تشاء.

وقد يقول قائل، ولماذا كل هذا التعليق على «البوابة» اليوم، ذلك لأن السيد بوش هو الآخر، حين اعترض على خطاب الرئيس السوري، نطق بعبارة يصعب الاستخفاف بها، إذ قال على سوريا «أن تتوقف عن تصدير العنف والبدء باستيراد الديمقراطية». أما السيدة ديبل فقد زارت لبنان مؤخراً وتحدثت عن الوطن «البوابة»، بمناسبة افتتاح معرض «صنع في أميركا» في قلب العاصمة اللبنانية. وكان بمقدور السفير الأميركي ان يقوم بهذه المهمة دون ان تتحمل ديبل مشقة قطع المحيطات، لكن الاستيراد والتصدير، موضوع مهم أكثر مما نتصور، ولا يقتصر على السيارات والطائرات أو البرادات، وإنما ايضا يشمل الأفكار(وهذا أعتى). وقد يكون الممر اللبناني انجح وافرح في إبراز قيمة الصادرات الأميركية، بعد أن بدت في العراق كئيبة وشاحبة، لا بل ومقززة، بما لا يطاق.

الأميركيون في لبنان، من سفيرهم، إلى موفوديهم وصولاً إلى الناطقين باسم أكبر مؤسساتهم الدستورية، حين يطلعون على الأقنية اللبنانية، يتحدثون كأصدقاء، وبلهجة ندية وودية، لا تشبه على الإطلاق تلك التي يطلعون بها على محطة الجزيرة مثلاً. فهم يوحون بأنهم شركاء في وجهات النظر، ومؤيدون للحرية والاستقلال والسيادة في بلاد الأرز. ثمة رهان على لبنان، وعلى الدور الذي يمكن أن يحققه لأميركا ومصالحها. أما اللبنانيون، فهم على عادتهم، وإبائهم وثقتهم بأنفسهم، يؤكدون من طرفهم، أنهم سيعرفون كيف يستفيدون من الاندفاع الأميركي نحوهم، بالقدر الذي يهمهم، وبالجرعة التي لا تؤذي جيرانهم. في ما سوريا تتشاطر، من دون حنكة دبلوماسية، وتستبق الرهان كله بإعلان نتائجه، والبناء عليها. فمن أصغر متفلسف إلى أكبر مسؤول سياسي في لبنان، الكل يعرف أن البلد الجار يوم يشتعل سيحرق معه لبنان، وربما بلداناً أخرى. وهكذا فكل يشتغل على وتيرة مصالحه، وللجار الكبير أن يعي هذه الحقيقة كما هي. وبالعودة إلى الاستيراد والتصدير، وهنا لب المعركة، التي تقودها أميركا في مواجهة أعدائها المعلنين وغير المعلنين،، قد يكون على الدولة العظمى ان لا تتصور بأن التبادل، يمكن أن يسير باتجاه واحد دائماً، فهذا ضد الطبيعة، ومنطقها، وإلا فعليها أن تحتمل تبعة الحقد على المستوردات الغربية والتعامل معها، على الطريقة العربية. فالأخ المناضل أبو مصعب الزرقاوي جعل من السيارات المستوردة قنابل تدمير شامل، ويكاد يحرق بها المنطقة برمتها، ووصل بعضها إلى عمان، في ما انطلقت الشظايا إلى مختلف الضواحي الأوروبية، بحيث أصبح حرق السيارات من التقليديات اليومية.

ماذا نصدر، وما الذي نستورد؟ هنا جوهر المعضلة. ولمن وكيف تفتح البوابة اللبنانية، وبمن ترحب وكيف تستقبل؟ هذا أساس في جوهر الأسئلة. ولو لم يكن العرب خواء من الخطط الذكية الصالحة للحياة، والمنتوجات المغرية للاستعمال، لما أصيبوا بكل هذا الإرباك، وتناهشتهم النزاعات والأحقاد الأخوية المريرة. ولذلك لا يعيب لبنان أن يكون «بوابة» للغرب يدخل منها إلى بلاد العرب، كما يرددون على أسماعنا، لكن يدمره بالتأكيد، أن يكون مجرد معبر للآخرين، بنواياهم وخفاياهم ورؤاهم، كما حدث ذات يوم، وأن يفشل، لمرة جديدة، في بناء شخصية وطنية، تسمح له بالتحكم الحكيم، بمنافذ الجسر (الوطن)، الذي بقي دوره أليماً لغاية اليوم.

[email protected]