سيدة الطرقات

TT

ألغت لندن، التي اشتهرت شوارعها بالباص الاحمر ذي الطابقين دون سواها من عواصم العالم، ما كان يعرف بـ«الباصات سيدة الطرقات»، لأسباب منها ان المعاقين لا يستطيعون الصعود اليها، ومنها ايضا انه كان من السهل الصعود او النزول منها، وهي سائرة او متحركة، مما يعرض المغامر للخطر. وأدى الغاؤها الى صدور كتب ومقالات كثيرة في صحف بريطانيا ودورها.

انها جزء من طفولة الاجيال وشبابها. وكانت مارغريت ثاتشر قد قالت ان «كل من يتعدى السادسة والعشرين ويستخدم الباص فهو فاشل».

وقد تعلقنا في صبانا «بالترام» او الحافلة الكهربائية، الذي كان ينقل اهل بيروت من طرفها الشرقي الى رأسها الغربي، بخمسة قروش للدرجة العادية وعشرة للدرجة الاولى. أي مقاعد الخشب ومقاعد القش المنجد. وكان بلا تلوث وبلا سرعة وله جرس مسكين لا يوقره احد.

وعندما أزيل «الترام» بسبب تضخم بيروت، ذهبت معه الحكايات المدرسية، وغابت اهم «تعاونية» نقل شعبي في المدينة. وكان لبنان كله يركب ذلك القطار الهادئ، من عمال وتلاميذ سابقين. وكنا نترجل منه وهو سائر. وكلما كان مسرعا كانت علامات الرجولة اكثر تأكيدا. وكانت المفاخرة في النزول قبل المحطة وهو يسرع وليس بعد التوقف عندها مثل البشر العاديين.

أحببت في أوروبا القطار الكبير. وسافرت عليه في شرق القارة وغربها. وعبرت فيه المقاطعات الكندية، وصولا الى جزيرة الامير ادوارد، أرض الغدائر وسمك السلمون. وأحببت السفر بالقطار وألفته ونوافذه المطلة على السهول والمراعي. لكن «ترام» بيروت ظل علم الذكريات في دنيا التنقل والترحال الكبير والصغير.

وعندما قرأت كتاب «الباص الذي احببنا» بقلم ترافيس البورو (دار غرانثا) عن قصة الباص اللندني الاحمر ذي الطابقين، تذكرت كم يحب الانسان في مراحل العمر الاشياء التي رافقت زمنه بحميمية دافئة وكأنها صداقات من الماضي.

عندما يقدم لنا مخرج سينمائي المشاهد الاولى من فيلمه، يبدأ بالسيارات، لكي نعرف في أي سنة نحن. او بالقطار القديم. او بالطائرة ذات المحركات الهدارة، التي تشبه المراوح الكهربائية في السقوف الحارة في افريقيا ايام الاستعمار. «الباص الذي احببنا» حكاية كل مدينة وكل جيل وكل ذكريات. انه ايضا «ترام» بيروت و«قطر» مصر و«الحوذي» في مسرحية جورج شحادة. حكاية من الماضي المفتقد، لها هدير والوان وصوت المحصل افندي يسأل مهددا: «مين ما دفع بعد من الاخوان»؟ وكان ثمن التذكرة خمسة قروش.