الشرق الأوسط في المرآة

TT

وسط كلّ الأخبار المتداخلة والمشوّشة والمتسارعة في الشرق الأوسط، هناك أخبار يمكن اعتبارها مؤشرات لمرحلة قادمة، وتوجّهات مستقبلية يجدر التوقف عندها.

من ضمن هذه الأخبار، ما تسرّب بعد زيارة وزيرة خارجية الولايات المتحدة إلى إسرائيل، عن موافقة الولايات المتحدة على تغيير مقاربتها لمشروع الشرق الأوسط الكبير، واستعدادها لإدراج إسرائيل في مساعي بناء الديمقراطية وحقوق الإنسان في البلدان العربية. وصرّحت رايس لوزير خارجية إسرائيل، أنها تحدّثت عن إشراك إسرائيل في الحوار الإقليمي لزعماء عرب، وواضح أنّها حظيت بموافقتهم. وأوضحت رايس أنها تحدثت في منتدى المستقبل عن المشاركة السياسية وحقوق النساء، وسلطة القانون، بشكل لم يكن يخطر بالبال قبل بضع سنوات، وهذا الحديث سوف يشمل إسرائيل قريباً.

والخبر الآخر المثير للدهشة، هو أنّ عمليات الاغتيال التي ترتكبها الحكومة الإسرائيلية، ضمن حربها ضدّ الشعب الفلسطيني، تُعرَض على خمس دول عربية، كمادّة دراسية للقوى الأمنية، كأحد أساليب مكافحة الإرهاب، بينما لا يستطيع رئيس الأركان الإسرائيلي دان حلوتس، الذي تَستَخدِم خدماته هذه، الحكومات العربية زيارة بريطانيا، لأن منظمات حقوق الإنسان رفعت دعاوى ضدّه وضدّ ضباط إسرائيليين آخرين، لدورهم في ارتكاب جرائم حرب، بما فيها عمليات الاغتيال للمدنيين الفلسطينيين، والذي يسمّيها رئيس الأركان نفسه مكافحة الإرهاب، ويعرضها على وفود أوروبية وعربية في إسرائيل، حيث تعقَد المداولات نصف السنوية لحلف الناتو، وبمشاركة قادة حلف الأطلسي وجيوش عربية. في الأسبوع ذاته برّأت المحكمة البريطانية عدداً من جنودها، ارتكبوا جريمة قتل مواطن عراقي ضرباً حتى الموت أمام سمع العالم وبصره، لأنه تبيّن للمحكمة أنهم كانوا ينفّذون أوامر عسكرية! كما برّأت المحكمة الإسرائيلية الضابط الإسرائيلي، الذي أفرغ رصاصتين في الرأس، ثم أعقبهما بثلاثين رصاصة في جسد الطفلة الفلسطينية الغضّ إيمان الهمص (13 سنة)، وهي تحمل حقيبة مدرستها على ظهرها، وتحلم بالوصول إلى العلم والنور وكانت التبرئة أقبح من ارتكاب الجريمة، لأنها أفادت أنّه كان ينفذ أوامر رسمية فقط!!

بعد زيارة وزيرة الخارجية الأمريكية إلى المنطقة، وتمديد هذه الزيارة، وخوض مفاوضات استمرت للساعات الأولى من الصباح، تمكّنت من إقناع الإسرائيليين من فتح جزئي لمعبر رفح، كي يسمح بدخول الفلسطينيين وخروجهم من سجن غزّة الكبير، ولكن بعد أن تـُعرَض أسماؤهم على سجل بيانات إسرائيلي، للتأكد من عدم السماح بحركة كلّ من يُعبِّر عن رفضه للاحتلال الإسرائيلي، وتمسكه بحقّه في فلسطين، محوّلين غزّة في ذلك إلى مركز اعتقال كبير، يشبه المعتقلات للهنود الحمر في ساوث ديكوتا، ومعتقلات الأبورجينز في استراليا.

بالمقابل، فإنّ كلّ ما أنجزه العرب في الأسبوع ذاته، هو إفشال إصدار بيان في منتدى المستقبل، الذي عُقِد في البحرين، معتبرين ذلك نصراً عظيماً، مع أنه من الواضح ممّا سلف، أنّ المباحثات التي أجرتها رايس مع القادة العرب، والوعود التي استجرتها لإشراك إسرائيل بالعملية الديمقراطية، أمرٌ في غاية الخطورة على مستقبل المنطقة. كما أنّ زيارة شالوم إلى تونس، وإهداء الدولة بيتاً له، بينما استشهد الطفل أحمد الخطيب ذو الاثني عشر ربيعاً، وتبرّع أهله بأعضائه لأطفال إسرائيليين، كيّ يعبّروا عن حسن نيّة السكان الأصليين تجاه المستوطن القادم، الذي يحتلّ الأرض والمياه ويقتل الشباب والأطفال، ويعرض على العرب دروساً في مكافحة الإرهاب، مُعتبراً كلّ مواطن فلسطيني رافض للاحتلال والقتل والإذلال إرهابياً.

في مواجهة هذا الواقع الجديد، والذي أصبح واقعاً مهما، حاول البعض رفضَه أو نكرانه أو توصيفه بطرائق مختلفة، هل يمكن للعرب الاستمرار كأمّة، وسط هذه العاصفة العاتية، التي تستهدف وجودهم، وبالأساليب والأدوات والمفاهيم ذاتها، التي استخدمها حكامهم ومثقفوهم منذ عقود؟

بغضّ النظر عن الحملة المنظمة ضدنا، فإننا كعرب ننظر إلى النصف الأول من القرن العشرين كعصر النهضة، ونستذكر صور الخمسينات والستينات وحتى السبعينات، والتي تمثّل بزوغ فكر تحرري وحركات نهضوية، أفعمت العرب أملاً بمستقبلٍ باهرٍ. وكانت الدول العربية ميداناً لتبادل الأفكار والرؤى والسياسات والكتابات والحوارات حول الحاضر والمستقبل. ولكنّ كهوف التخلّف الظلامية، استطاعت أن تدفع شيئاً فشيئاً، وتأخر العرب جميعاً عن معظم دول العالم في أغلب مؤشرات التنمية، بما في ذلك النهضوي، لانخفاض عدد ومستوى مراكز الأبحاث ومستوى جامعاته وإنتاجه الفكري وحيوية الحياة السياسية فيه، الأمر الذي يُستخدم كذريعة اليوم للقدوم إلى العرب وتثقيفهم عن حقوقهم المدنية وحياتهم السياسية ومواكبة ما توصّل إليه الآخرون أنظمة وديمقراطية وحقوق إنسان، وصولاً إلى التنمية والتعليم.. إلخ، كما يُستخدم هذا كذريعة لاحتلال دول عربية، ووضع اليد على ثرواتها وتاريخها وهويتها، وتجاهل الإذلال والقتل والسجن والتعذيب، الذي يرافق ذلك للمدنيين، كما يترافق ذلك مع موجة إعادة تعريف الأمة العربية، وتمزيقها وفق الانتماءات العرقية والدينية والطائفية، بعد أن تمّ تمزيقهم وفق الأقاليم والأقطار والمدن، بدلاً من تعزيز سلطة الدولة وفق الأسس الديمقراطية الحديثة، وتعزيز مفهوم حقوق المواطنة بعيداً عن العرق أو الدين أو الجنس أو المذهب.

إذا أخذنا بالاعتبار، أنّ المنطقة العربية تشكّل منذُ فجر التاريخ، ملتقى أهمّ تنوّع سكاني في العالم دينياً وعرقياً ومذهبياً، فإننا نُدرِك حجم الأخطار المحدقة بالدول العربية الحالية ذاتها، التي ظهرت من الحقبة الاستعمارية وفق مخططات ومصالح غربية والمثال سايكس بيكو، أخطارٍ ناجمة من تفتيت هذه الدول إلى دويلات، بحجّة وجود أكثرية وأقليّات، وفي كلّ دولة على نسق مغاير، وذلك من أجل الإجهاز على الهويّة العربيّة للدول العربية، وفي النهاية التسليم لإسرائيل كقوّة إمبريالية تماماً، تحكم قبضتها على الجميع. والقضاء على العرب هنا، لن يكون إبادة جماعية، بل يتمّ وفق مخطط يُلغي مفهوم ووجود الأمة العربية معرفياً وحقوقياً وسياسياً وحضارياً، بحيث يصبحون مجموعات ودويلات متمايزة عن بعضها دينياً وطائفياً وإقليمياً تسعى جاهدة، كما سعت دول سايكس بيكو، إلى إثبات الذات الجديدة والدفاع عن وجودها من أخطار الدويلات «الشقيقة»..!

تحمل الأخبار استحقاقاتٍ داخلية وخارجيةً وبينيةً، لم يعد بإمكان العرب الدوران حولها أو تجاهلها، وأقلّ ما يتطلبه هذا الخطر الداهم، هو الإدراك أننا كأمـّة: حكومات وقوى سياسية واجتماعية ونخب فكرية، لم نرتق بأسلوب عملنا إلى مستوى هذه الاستحقاقات، ولا بدّ عند مواجهتها من الصدق والصراحة والجرأة والشفافية، في مواجهة كلّ المسائل المتعلّقة بنا، فإن تاريخنا المشترك قد يتحرّك باتجاه اللاعودة على مسار التمزّق.