مع يوم الطفل: حتى لا يموت لنا أولاد آخرون!

TT

الأمس، وافق تاريخه «اليوم العالمي للطفل» بحسب اتفاقية الأمم المتحدة المنعقدة في 20 نوفمبر لعام 1989، والتي هي أكثر اتفاقيات حقوق الإنسان تصديقاً (وليس مجرد توقيع) من الدول الأطراف، (192 دولة ما عدا الولايات المتحدة والصومال)، أمّا لمَ هاتان الدولتان بالذات، مع ملاحظة المفارقة بين أطفالهما، فهو لا يدخل في حدود مقالنا، لأن شاغلنا ليس من وقّع أو صادق، وإنما من طبّق وصحّح، فعلى ما يبدو أننا قد وضعنا أطفالنا في أظرف مختومة بالشمع الأحمر، ثم نسينا أمرها مع بقية أوراق مبعثرة في أحد أدراج مكاتبنا، ولأن ذاكرتنا ولعت بارتباطها بالماضي والعودة إليه، حتى أننا لنتذكر أحبابنا أكثر متى رحلوا، تجدنا لا نريد تذكر مستقبلنا...الذي هو أبناؤنا! ثم نصر على الطمأنة الفارغة، وكأننا نحيا خارج أسوار الزمان.

«ماذا صنعنا لأطفالنا؟» كم هو سؤال مشروع، وكم هي الإجابة موجعة، فهل نتحدث عن حقوق الطفل داخل أسرته، أم مجتمعه، أم الكون بأسره! هل نكرر مقولات التعليم والصحة ونسبة حرمانه العربي منهما، أم ننطلق إلى الشوارع وأطفاله وباب العمالة تحت السن القانوني، ثم، وماذا عن العنف الموجه ضده وقصص مآسيه المفجعة! إن الموضوع، أو لنقل مساحة الألم لهي أكبر من دائرة مقال أو عشرة، وعليه، فلننحّي التفاصيل والإحصاءات جانباً، فالكتب قد فاضت بها! ولنبدأ حكايتنا عن هذا المخلوق بعزف مختلف!

بداية، ما هي فكرتنا عن أكبادنا! أتكون أنهم بشر أم دواليب حظ تتحكم فيهم الصدفة! فالتربية العظيمة هي أعلى مراحل المسؤولية والتبصّر فيما نفعل ونقرر مع صغيرنا، فلا نظن أن تصرفاتنا معه مهما تضاءل حجمها لا تصل إلى الخطوة الفاصلة في حياته، ففي لحظة نرفع فيها أيدينا لنصفع وجهه، أو غير أيدينا لنعاقب ونؤدب على حد زعمنا، في لحظة نستهين فيها بتضميد جرحه، أو مسح دمعه، لا نسمع فيها شكواه ولا نهتم بلعبه، هل نعي أننا بذلك إنما نشكّل ملامح إنسان ستلازمه حتى وفاته، مفاهيم كانت عجينة فشاركنا في صياغتها ثم كسرنا قالبها، وكأن جمود حشوها دليل تمامها، فإذا نظرنا إلى الجسم وقد يكون جميلاً، لم ندر بأن النفس مكسورة، وجبرها أصعب!

حين يخرج المولود إلى الحياة، فهو استدعاء لحقه بالعيش الكريم، وحين ينتفي هذا المطلب تبدأ رحلة متاعبه، ولسنا بصدد عرض لطفولة المجرمين والطغاة البائسة التي أودت بأصحابها وشعوبها إلى جحيمها، فإذا سألنا عمّن شق عصا الطاعة فكان العاصي في محيط ظروف عيش معقولة، فهو من الاستثناءات ولا «يجب» القياس عليها، فدائم صراعنا مع عموم المفروض والصحيح، فإن وقعت تجاوزات خالفت قوانين العقل ومنطقه فلا يجوز التذرع بها، فكما أن البيئة الصالحة يخرج منها الطالح، فكذا الرحم المشوّه يطرح جنيناً معاقاً، ومع هذا، فقد يخلق الله من ظهر الفاسد عالماً.

أطفالنا ليسوا «براويز» نزّين بها مجالسنا فحسب، ولكنهم أحياء ينبضون، وحالات منفردة تدافع عن نفسها فكيف نضنّ عليها أو نهملها! إن في قمعها وأد لمستقبل أمتنا، وقوانيننا البالية نحن من اخترعناها، وفي شنقها كل الأمل لأجيالنا، وكما أن ليس لأبنائنا الرضا بأهل غيرنا، فليس لنا البحث عن أبناء غيرهم. إن فلذاتنا لم يهبطوا علينا من السماء، وإنما خرجوا علينا من شحوب حياتنا، ومن تحت عظأمنا المطحونة، وأحلأمنا المقهورة، فلا يكون ذنبهم أن نحملّهم أخطاءنا السلوكية والسياسية، وإن كان شاعرنا العربي قد تباهى يوماً بقوله:إذا بلغ الفطام لنا صبيّ، تخر له الجبابرة ساجدينا، فأحفاد عمرو بن كلثوم في العراق والقدس والصومال والسودان و... و.. قد جثوا أرضاً وزحفوا حفاة ليأكلوا رغيفاً وليتهم وجدوه.

إذا لم يكن مقبولاً أن نبرأ من دماء أطفال المسلمين المهدورة، فماذا غيرّنا من واقعنا حتى نحافظ على من عاش منهم ومن ينتظر المجيء! فإن كانت الكتابة أخذت طابع العادة وتحولت إلى أي شيء ندمنه ولا ينفعنا، إلى مقال يظهر ليطوى، إن كانت الحروب ودماء الأطفال لم تمتص أوكسجين فضائنا! فما الذي يحرك الجهاز العصبي للأمة العربية إذن!

على من يريد قراءة الطفل، الولوج إلى عالمه وبشمولية، فمعرفة البيت من الداخل غير قابلة للتجزئة، وإذا نزل حوالي 5600 طفل في العام الماضي لمدة يومين إلى طرقات سويسرا لمسح الأحذية وزجاج السيارات تضأمناً مع أطفال الشوارع، لتقمص دورهم وللمرة السابعة في تحرك لمنظمة «أرض البشر» في مدينة لوزان، وللفت نظر العالم إلى هذه الفئة المشردة من الخلق، أقول إذا وصل عدد المتضأمنين «الأطفال» وفي سويسرا (أرقى البلاد) إلى هذا الحد، أفلا يحزّ في نفوسنا وقوفنا نحن العرب «الكبار» صامتين!.

وعلى ذكر الصمت، ماذا لو نعرّف بيوم الطفل الخليجي الذي سن له تاريخ الـ 15 من شهر يناير، والأول من أكتوبر لليوم العالمي للطفل العربي، والـ11من نفس الشهر ليوم الطفل العربي والدولي!. هل يعقل أن يكون الحل في تعيين الأيام وحجزها، وكأن حالنا لا يزال يتسع لحفظ تواريخ تضاف إلى باقي سلة مناسباته!

إن حيادنا في قضية مستقبل ابنائنا هو موت لنا، إن استنزافنا غير المقنن لموارد أوطاننا معناه ضباب لا يهمنا كيف ينقشع وعلى من، إن استخفافنا في معالجة شح المياه الذي يقف في المحطات التالية ليبكي من قلة وفائنا لأولادنا، إن تضخم معدلات الطلاق ليصرخ عالياً متى يتحرر أبناؤه من توقيع وثيقة انفصال، وبيت لا يجتمع أهله على وفاق، وأخيراً، وقد خلصت قمة تونس العالمية للمعلومات بتقليص الفجوة الرقمية، وبتوصية تداول كومبيوتر محمول بسعر مائة دولار لتوزيعه على وزارات التربية النامية، فهل نتجاوز قدرنا إن طرأ على بالنا كيف نخلق «الأمان» لأبنائنا أولاً حتى يولدوا بجلود جديدة، وأفكار جديدة، ووجوه جديدة، لعلهم حينذاك يصنعون كومبيوترهم بأنفسهم وبلغتهم هم.