باريس: من الأنوار إلى النار

TT

وأنا في مترو الأنفاق بباريس، في رحلة سياحة في شهر سبتمبر ايلول المنصرم، كنت أستغل أحيانا فرصة هذا العبور البرقي في شرايين الجسد الباريسي، لأتلصص خلسة على تلك الوجوه الفرنسية الباهتة، أحاول أن أقرأها، أن أفك ألغازها كم هو صعب قراءتها، أو حتى تهجي ملامحها المنكفئة على نفسها. حاجز صلد يصعب عليك اختراقه، وجوه باردة، وفي المقابل لا أحد يقتحمك أو يشوش على هامش حرية تنعم به، والذي من المفروض أن تحرص عليه، بل وتعض عليه بالنواجذ، ولا مجال للسؤال، وحتى إن سولت لك نفسك لعب دور التائه الأبله في شوارع باريس الراقية، فكن على يقين أنك لن تكون سوى نبتة هجينة تثمر إزعاجا وتشويشا للجميع. كل هذا كان يفسر لي ما يحكيه البعض عن برودة تسم العلاقات الإنسانية، ناهيك عما قرأته عن الفرنسيين، عن تعصبهم القوي للغتهم وحضارتهم وثقافتهم، ومناهضة بعض الجمعيات الفرنسية للعولمة كتهديد صريح لمقوماتهم الحضارية، ودعوة بعض فئات المجتمع الفرنسي للخروج منطقة اليورو، وهو شعار كان مكتوبا في ملصقات كثيرة معلقة على جدران بعض الشوارع الفرنسية، عدا رفضهم أخيرا التصويت على الدستور الأوروبي، والذي كان كرد فعل على ما تعانيه فرنسا من مشاكل داخلية، كالبطالة والفقر، بالإضافة إلى خوفهم على هويتهم من الانصهار في الجسد الأوروبي. وفي ظل هذا الهدوء الذي يطبع هذه الوجوه الفرنسية، كانت سحابات قلق وخوف تسكن عيونا تونسية بجنسية فرنسية تعمل في الفندق الذي كنت أقيم وزوجي فيه، تعمل مديرة مساعدة لزوجها التونسي، الفرنسي الجنسية هو أيضا، سيدة مثقفة راقية، قارئة نهمة للأدب العربي، تتحدث الفرنسية بطلاقة، لكن بمجرد ما أظهرت لها صورة ابنتي وابني، قالت، وما زلت أتذكر بالحرف ما تفوهت به ما شاء الله، الحمد لله أنهما سيحظيان بمستقبل أفضل في وطنهم.. ظلت تلك العيون الملأى بالشجن والخوف، الممزوج بالتوجس من المستقبل، تلاحقني طيلة رحلة العودة لماذا هذا الإحساس بالخوف في وطن حقوق الإنسان ومبادئ الحرية والإخاء والمساواة، في وطن يزهو بأن ثقافته هي ثقافة الإنسان والتاريخ، عكس الثقافات الأخرى. هل يبدو الاندماج في المجتمع الفرنسي أمرا صعبا إلى هذا الحد، وحتى إن كنت تمتلك أهم شروط الاندماج، وهو أن تتوفر على جنسية فرنسية؟ وجاء الجواب صادما هائجا، بلغة الحديد والنار، في بلد ديمقراطي متحضر، أميل للسلم والمهادنة ولغة الحوار والتواصل والمظاهرات السلمية، لغة عنيفة لمواطنين فرنسيين من أبناء

الجيلين الثاني والثالث، حيث عاشت ضواحي باريس لحظات مريرة في أتون فوضى تغلي باحتطاب كل مشاعر الإقصاء والتهميش والعنصرية والتجاهل، عمليات تخريب تلتهم السيارات وتهشم واجهات المحلات الأنيقة أناقة باريس وأهلها، عمليات هي جزء من خراب وانهيار داخلي لشباب غاضب، بل لأطفال في عمر الزهور، يتقنون لعبة الكبار، يسرقون البنزين، ويصنعون قنابل مولوتوف. وجاء الرد الردعي والزجري من وزير الداخلية الفرنسي نيكولا ساركوزي ليمخر عباب موج أهوج، ويتخلى

عن، مقود الرزانة والمسؤولية وينعت هؤلاء الشباب، أبناء المهاجرين، ممن قدموا من المغرب العربي وأفريقيا والمستعمرات الفرنسية، لبناء اوروبا شرقا وغربا وجمع محاصلها، وشق طرق مواصلاتها، ينعتهم اليوم

بالرعاع والحثالة، ويقترح حظر التجول بمختلف أرجاء التراب الفرنسي، وهناك ما يؤكد أنه اقتراح من الوزير الأول الفرنسي دومينيك دوفيلبان. لا يهم إن كان من اقتراح الوزير الأول أو الثاني، المهم أنه اقتراح فرنسا

القوة العظمى، اقتراح ربما هدأ نسبيا من روع فرنسا، لكنه كشف أمام العالم عن الوجه الآخر لها، فرنسا التي تعاملت بعنف أقوى مع هذه الأحداث الدامية، وتغاضت عن أحزمة الفقر والغيتوهات المنتشرة في ضواحيها، وأهملتها حتى غدت حقلا مزروعا بألغام الفساد والتهميش والبطالة، قابلة للانفجار في أي وقت. بعد ذلك يعلن الوزير الأول الفرنسي دومينيك دوفيلبان أمام الجمعية الوطنية عن سلسلة إجراءات للنهوض بهذه الأحياء المهمشة، في الوقت الذي يهدد فيه جاك شيراك عائلات هؤلاء الشباب الغاضب، بحرمانهم من بعض المعونات الاجتماعية، إن لم تجعل أبناءها تتوقف عن هذه الممارسات المشينة، عائلات أغلبها يعتمد على هذه المعونات، والتجأت إلى التناسل للحصول على تعويضات أكثر، لكنها الآن تشتكي من صعوبة التواصل مع أبنائها، وعدم قدرتها على فرض هيبتها عليهم في ظل مجتمع أجنبي وبقيم غربية، حتى أن بعض العائلات كانت تبتهج إذا ما التجأ أبناؤها إلى المساجد للابتعاد عن بعض أشكال الفساد التي تهدد حياتهم، وهم يجهلون أن خطر دور العبادة هو أكبر أحيانا، خصوصا إذا كانت هذه المساجد تعج بالجهلة بأمور الدين، ممن يلوثون فكر هؤلاء الشباب بأفكار هدامة ظلامية، تقوض كل ما هو نبيل وإنساني في حياتنا. شيء فظيع أن لا يصلنا صوت الضواحي والهامش إلا عبر التفجيرات، والأفظع ألا نقترب منها لنصيخ السمع لنبضها ونلملم جراحاتها إلا بعد وقوع الواقعة. فأن نستفيق في صباح يوم ما على دوي الانفجارات، وأن نتأبط في صباح اليوم الموالي برامج وإجراءات لإصلاح ما فسد وتحسين ظروف هؤلاء المهمشين، وتوفير أبسط حقوق العيش لهم، ليتعهدوا بأن لا يقلقوا راحتنا مرة آخرى.

تلك مشاهد، كنا نستبعدها في الدول المتقدمة، لكنها قد تبدو عادية في الدول المتخلفة، وما وقع في المغرب من أعمال إرهابية في 16 مايو ايار بالدار البيضاء خير دليل على ذلك. فأغلب الشباب كانوا من الأحياء الهامشية.

ومباشرة بعد هذا الحادث الإرهابي، اتجه كل الاهتمام لهذه الأحياء، لضخ دماء جديدة في جسدها المهترئ، وابثعاث الحياة من جديد فيها، وإن كان لا مجال للوقوف موقف الندية ومقارنة أحداث الدار البيضاء

بالانتفاضات الأخيرة التي وقعت في فرنسا. فمنفذو تفجيرات الدار البيضاء، بالإضافة إلى أنهم محرومون من أبسط حقوق العيش، كانوا للأسف أجسادا طرية قابلة للتطويع وإعادة التشكيل من طرف ظلاميين، لكن ما وقع في فرنسا هو انتفاضة شباب غاضب يعاني من تراكمات عديدة أزمة هوية، فشل الاندماج، فشل دراسي، تفكك أسري... فحالة الغليان التي تعيشها فرنسا ليست وليدة اللحظة، بل هي نتيجة حتمية لسياسة التجاهل واللامبالاة التي تسنها فرنسا تجاه تلك الأقليات المهاجرة، وهي سياسة تسنها كذلك بعض الدول المتخلفة تجاه أحيائها الهامشية، التي يعشش فيها الفقر والفساد والأمية وتعد مرتعا خصبا للتطرف، لكن لا سبيل بعد الآن لتلقي دروس في الديمقراطية وحقوق الإنسان والامتثال والخنوع للغرب الأب الوصي الذي لا يكف في كل مناسبة تتاح له عن التهليل والإشادة بما تنجزه بعض هذه الدول من إصلاحات في مجال حقوق الإنسان، فهذه الشعارات البراقة خدعة لن تنطلي علينا، على الأقل نحن الشعوب، أما القادة فهم مضطرون لتصديقها، ومن قال عكس ذلك، فأميركا له بالمرصاد، ستمنح لنفسها حق التدخل لتغيير النظام، بدعوى خرقه لحقوق الإنسان، أو تشجيعه للإرهاب أو امتلاكه أسلحة الدمار الشامل.. فما يعيشه الغرب اليوم هو ازدواجية غريبة بين المبدأ والواقع، بين الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كوسيلة، وأوضاع حقوق الإنسان كممارسة، ومن الأفضل تقديم الدعم للدول المتخلفة، ومنع جحافل المهاجرين من اللجوء إلى الشمال، بحثا عن مستقبل أفضل؟

بل والقضاء على فقر مدقع لم يعد يطال عامة الشعب، بل يمس كذلك النخب، ممن نراهن على صوتهم للتأثير في مجتمعاتنا، حيث أعلن الشاعر الجزائري أبوبكر زمال عن رغبته في بيع إحدى كليتيه لتجاوز محنة فقر ابتلي بها، خبر يثير كل مشاعر التقزز والاشمئزاز في نفوسنا، دعم سيعمل نسبيا على تحسين وضعية الدول المتخلفة، وبالتالي تحصين الغرب ورأسماليته المتوحشة من عمالة وافدة رخيصة، هو في أمس

الحاجة إليها، لكن للأسف يمارس في حقها كل أنواع الإقصاء والتهميش والعنصرية. مفارقة أخرى يعيشها الغرب، ففي الوقت الذي تتعالى فيه أصوات تنادي بالعولمة، وفتح الحدود الجمركية وحرية تنقل رؤوس الأموال والبضائع، يُستثنى البشر من هذه الحرية العالمية، وفي الوقت الذي يصنع فيه الغرب تكتلات للطيران في سماء العولمة بأجنحة حديدية الاتحاد الأوروبي مثلا، يسعى جاهدا لأن يضع حواجز بين رفاهيته وبذخه وبين بؤس العالم.