الثروة العربية الجديدة ..!

TT

من النادر تماما أن تحصل أمم على أكثر من فرصة تاريخية للتقدم وعبور مسافات التخلف وأزمنة البدائية، والدخول إلى عالم الصفوة العالمية حيث تتم صياغة الدنيا فكريا وقيميا وتكنولوجيا واقتصاديا وسياسيا وحتى روحيا. وعلى سبيل المثال فقد حصلت أوروبا على فرصتها التاريخية عندما حصلت على الفائض الرأسمالي للكشوف الجغرافية العظمى في منتصف الألفية الثانية بعد الميلاد، وولدت منها الثورة الصناعية الأولى التي حملتها بما ولدته من ثروة، والأهم من قوة، إلى استعمار قارات آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية والوسطى. وحصلت الولايات المتحدة واليابان وروسيا على فرصتها التاريخية من خلال توظيف فوائضها التي تراكمت لأسباب تاريخية مختلفة في توليد الثورة الصناعية الثانية التي قادتها إلى مساحات كبرى من السيطرة السياسية والاقتصادية فى العالم، والأهم من ذلك كله أنها قادتها إلى الثورة الصناعية التكنولوجية الثالثة التي فتحت آفاقا في الفضاء وعلى الأرض لم يصل إليها إنسان من قبل، وعلى كل البشرية الانتظار حتى نهاية القرن الواحد والعشرين حتى نعرف إلى أين وصلت نتائج الفرص التي منحت لأوروبا وأمريكا واليابان.

وخلال القرن العشرين حصل العرب على فرصتين، واحدة جاءت مع الاستقلال عن الاستعمار الغربي بأشكاله المتنوعة، عندما وجدت الدول العربية المختلفة نفسها حرة في تقرير مصيرها واتخاذ قراراتها المستقلة، ولا يقل أهمية عن ذلك أنها وجدت نفسها قد عبرت خلال فترة الارتباط بالغرب العصور الوسطى العربية بكل ما كان فيها من تخلف روحي ومعنوي ومادي. وكان جزءا من هذه الفرصة أن الميلاد الجديد جاء بعد أن تطور العالم كله نتيجة الثورتين الصناعيتين الأولى والثانية، ومعهما نضجت نظم الإدارة والسياسة، وما كان على العرب إلا التمتع بميزة القادمين المتأخرين إلى ساحة من التطور والتقدم لكي يحصدوا فوائدها وآخر إبداعاتها دون المرور بمعاناتها بالضرورة. أما الفرصة الثانية فقد جاءت بعد عقدين من الاستقلال تقريبا عندما وجد العرب أنفسهم وسط ثروة طائلة ولدتها صدف جغرافية، وربما منح وبركات إلهية، عندما تصاعدت أسعار النفط خلال عقد السبعينيات والنصف الأول من الثمانينيات، ونجمت عنها فوائض مالية سببت مشاكل عظمى لعدم القدرة على إنفاقها. وكانت هذه هي المرة الأولى في تاريخ العالم الثالث، وربما العالم كله ـ فيما أعلم ـ التي تكون فيها مشكلة الدول ليس النقص في رؤوس الأموال وإنما الزائد منها. وحصل العرب، دون كل أمم العالم، على نقض للنظرية الاقتصادية التي تقول إن مشكلة الإنسانية هي لا نهائية احتياجات البشر ومحدودية الموارد المتاحة، فأصبحت المشكلة العربية هي استخدام الوفرة في الموارد للتعامل مع احتياجات جد محدودة! .

ومن الجائز تماما القول إن العرب بنسب متفاوتة أضاعوا الفرصتين، أو حققوا فيهما نتائج محدودة، ومن الثابت أن العرب بعد نصف قرن من الاستقلال لا يمكن اعتبارهم من الدول المتقدمة، أو من الأمم التي تعيد صياغة العالم، ولم يكن أحد يحتاج التقرير العربي للتنمية الإنسانية حتى يعرف مكانة العرب المزرية بين الأمم. فقد خرج العرب من الحالة الاستعمارية لا لكي يتجاوزوها إلى عوالم أوسع وأرحب من الحرية والإنتاجية والإبداع، وإنما لكي يستعيدوا من خلال الخصوصية وأدوات الدولة القمعية الحديثة تراث الاستبداد المملوكي والعثماني. ولم يكن العرب أكثر حظا مع فرصتهم الثانية، فرغم التحسينات في البنية الأساسية والصحية والتعليمية، فإن العالم العربي بقي على حاله من الفقر المادي والروحي، بل وفي بعض الأحيان تمزقت دول نفطية ـ العراق والجزائر ـ ومعها دول غير نفطية – الصومال ـ بينما انتهت بقية الدول إلى إنتاج طوائف متنوعة من الإرهاب والاستبداد.

والآن يحصل العرب على فرصة ثالثة لم تحصل عليها دولة أو أمة نتيجة الارتفاع الهائل في أسعار النفط الذي وفر دخلا للدول البترولية كان قدره في عام 1998 حوالي 100 مليار دولار وفق الأسعار الثابتة لعام 2004 ، فوصل هذا العام 2005 إلى 500 مليار دولار وفقا لنفس الأسعار الثابتة. وتبعا لكثير من التقارير فإن هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأن هذه الحالة من الغنى ليست حالة مؤقتة، فالثابت أن الطلب على النفط يتزايد بسبب الانفجار التنموي في كل من الهند والصين وهو ما يعني أن مليارين من البشر بطريقهم إلى سوق الاستهلاك والإنتاج العالمية، ومن ثم فإن نكسة طويلة المدى أو عميقة التأثير لأسعار النفط ليست متصورة في المدى المنظور. ومن الثابت أن المملكة العربية السعودية رفعت إنتاجها من 9.5 مليون برميل في اليوم في مطلع العام إلى قرابة 11 مليون برميل، كما أن استثماراتها الراهنة تسعى إلى إضافة 1.5 مليون برميل إضافية قبل حلول عام 2009، ويدخل في عالم التخطيط والاستثمار السعودي الآن ما يخلق طموحا بوصول الإنتاج السعودي إلى 15 مليون برميل يوميا قبل عام 2020 . ولا يحدث ذلك في المملكة وحدها بل أنه يحدث في دول الخليج العربية، كلها بلا استثناء، ووصل دخل دول مجلس التعاون الخليجي الست من النفط في عام 2004 إلى 187.5 مليار دولار، ومن المنتظر أن يصل هذا العام إلى 250 مليار دولار. وأدى ذلك إلى إعادة تشكيل أسواق الدول الخليجية المالية بحيث وصلت إلى سقوف لم يحلم بها احد منذ سنوات، كما أدت إلى إعادة النظر في خطط التنمية القائمة واستبدالها بخطط أكثر طموحا. وبينما زاد حجم الرسملة في السوق المالية السعودية بمقدار 540 % خلال السنوات الأربع الماضية، فإنه زاد بنسبة 560 % في الكويت، أما في دبي وحدها غير بقية دولة الإمارات العربية المتحدة فزاد 1024 %.

هذه الثروة الهائلة لدى الدول العربية لم تتوافر منذ مطلع الثمانينيات، ففي عام 2004 بلغ الناتج المحلي الإجمالي السعودي 254 مليار دولار ـ أو حوالي 35% من الناتج المحلي لكل منطقة الشرق الأوسط بعد استبعاد إسرائيل ـ ومن المقدر أن يصل هذا الناتج إلى 330 مليار دولار في العام الحالي 2005، أو حوالي 40% من ناتج المنطقة. وحدث ذلك لبقية دول الخليج العربية الأخرى، فبلغ الناتج المحلي الإجمالي عام 2004 لدولة الإمارات العربية المتحدة 96 مليار دولار، والكويت 41 مليارا، وقطر 28 مليارا، وعمان 25 مليارا، والبحرين 11 مليارا. هذه العملية من الثروة المتراكمة لم تصل إلى الدول فقط بل انها مست أيضا الأفراد الذين تكونت لديهم ثروات طائلة. ووفقا لتقديرات مؤسسة «ميرل لينش» المالية فإن رأس المال الذي يتحكم فيه الأفراد الأغنياء في الشرق الأوسط ارتفع بنسبة 29% بين عامي 2003 و 2004، وهو ما يجعل إجماليه يقترب من تريليون دولار. وتقول التقديرات المتاحة إن هذا القدر من المال سوف يزيد بنسبة 9 % سنويا حتى نهاية هذا العقد، وحسب هذه التقديرات فإن نصف هذا المبلغ ـ 500 مليار دولار ـ يتم استثماره ومراقبته في الأسواق العالمية، أما النصف الآخر فإنه هائم بين القارات والمحيطات.

الفرصة كبيرة إذن، والمفاجأة فيها أنها هي الفرصة الثالثة، والمفاجأة الأكبر سوف تكون إذا ما أحسن استغلالها هذه المرة، وكيف ؟ ذلك هو السؤال !.