البحرين .. حضور النجف وجدل الأحوال الشخصية

TT

تتسع أمامك مملكة البحرين، رغم صغر مساحتها حتى تبدو للناظر من الجو نقطة في مياه الخليج، بعد زيارة متحفها وآثار قلعتها ومعبدها ومقابرها السومرية، ومنتدياتها الثقافية والفنية المتنوعة، والوقوف على جدلها الدائر حول الأفق الديمقراطي، وما يدور بين المؤسسة الدينية والمجتمع المدني من خلاف ساخن حول قانون الأسرة. ويقنعك مرشد متحفها بأدلة أثرية أن جلجامش أتى دلمون البحرين من العراق باحثاً عن عشبة الخلود. كذلك تشير الأختام والنقوش والهياكل العظمية، الممدة في القبور وسط المتحف، إلى تاريخ يوازي بالقِدم تاريخ سومر بأور ولكش وأكد العراق. وإلى جانب ذلك ارتبط تاريخ البحرين بحركة القرامطة، التي قادها أبو سعيد الجنابي، قادماً من سواد الكوفة (حسب كتاب مي الخليفة)، ودامت دولته تسعين عاماً. ولا أدري إن كانت هذه الآصرة الحضارية وراء تواجد عراقي بالبحرين: (شيعة ومندائيون ويهود)، نزلوها بين القرنين التاسع عشر والعشرين، وهناك مَنْ هو أقدم بكثير، ومَنْ له جذور بحرينية.

زرت الصابئي المندائي عبد الرزاق رومي، وهو مازال يمارس مهنة الأجداد الصياغة والمينا بالفضة بسوق المنامة القديم. ظهر أنه ابن أخي الباحث المندائي غضبان رومي، وصل مع عمه على ظهر قارب من البصرة قبل 66 عاماً، وكانوا يشكلون جماعة مندائية عراقية بالسوق والمجتمع، فالمحل الذي أمامه كان لزهرون الصائغ. رحل الكل بعد التقدم بالعمر، وتفضيل طقوس الموت والدفن مع أهل ملتهم بالعراق. إلا أن القدر كان ينتظر زهرون، بعد تركه البحرين نهائياً، فما أن نزل البصرة حتى قضى هو وأسرته بصاروخ إيراني، اخترق دارهم أيام الحرب العراقية الإيرانية. ولم يبق من هذه الجماعة سوى عبد الرزاق الذي أسلم ليأتلف مع المحيط. سألته متأثراً بالحمى الطائفية اليوم، على أي مذهب كان إسلامك؟ قال: على مذهب الإمام أبي حنيفة. قلت له: خيراً فعلت. فتسامح أبي حنيفة يعادل ليبرالية الدنيا اليوم.

وماعدا ما حصل في 1948 و1967 عاش اليهود بسلم ووئام بين المجتمع البحريني، وهم القادمون من الموصل تجاراً وصيارفة، وأصبح الصيرفي والتاجر إبراهيم نونو عضواً في مجلس الشورى الحالي، إلى جانب امرأة مسيحية. وجدت نونو يحب البحرين كثيراً، فهي مسقط رأسه والده ومسقط رأسه. إن وجود تعدد بيوت العبادة، وتعدد مقابر أهل الأديان والمذاهب، من دون تصادم يعكس روحا بحرينية منفتحة قديمة جديدة. ويحسب للبحرين أيضاً الموقف المتمدن من النساء، ليس على مستوى التشريع، فما زالت المعركة قائمة حوله عبر الخطابة والتظاهرات المتعاكسة، بل على مستوى آداب الطريق، فالشارع البحريني خالٍ من ظاهرة التحرش والسماجة تجاه النساء، وليس هناك شروط للحجاب عليهنَّ، أو أي مقيدات أخرى.

وجدت لؤلؤة الخليج تعيش حالة شبيه بالحالة العراقية، ليس على الصعيد الأمني فهي جزيرة آمنة مستقرة، بل الجدل الدائر بين المدنيين وشريحة من علماء الدين، الشيعة على وجه التحديد، حول قانون الأسرة، الذي يعرف بالعراق بقانون الأحوال الشخصية. هنا تحضر الحالة العراقية ممثلة بحضور اسم مرجعية النجف أو قم، والأكثر ميلاً، هو لمرجعية النجف، فهي الأجدر بالتقليد، لها باع في الفقه وقدم في التاريخ، وبطبيعة الحال هناك مَنْ يتابع مرجعية قم. وإذا يحاول علماء دين من شيعة العراق إلغاء القانون الذي كُتب في ظل العهد الملكي، وصدر في ظل حكومة عبد الكريم قاسم (ديسمبر 1959)، يقتفي أثرهم علماء الشيعة البحرين في محاولة منع إصدار قانون للأحوال الشخصية، الذي ينظم الحياة الزوجية ومتعلقاتها.

معلوم أن الأحوال الأسرية أو الشخصية تدخل في قسم المعاملات لا العبادات، أي تنظم أحوال المواطنين بينهم البين، ومن الشاذ في هذا العصر أن لا يتفق المواطنون على قانون موحد لتنظيم تلك المعاملات، بينما تختص العبادات بالواجب الديني، والناس أحرار حسب أديانهم ومذاهبهم في ما يعبدون. خرجت ضد ومع هذا القانون مسيرتان تطوف شوارع البحرين، واحدة يتقدمها علماء، أو ما عرف بالمجلس العلمائي، ونساء موشحات بالسواد، يشار إليهنَّ بالزينبيات. بينما تألفت المسيرة الثانية من النساء المطالبات بسن قانون الأحوال الأسرية، تجمعت حولهن مكونات المجتمع المدني. جرى النقاش حول ضخامة تجمع القاطرات والقاطرين خلف علماء الدين، هل خرجن عن وعي ودراية بما يدور حولهنَّ؟ وهل يعلمن بخطورة أن يبقى المجتمع بلا قانون أسرة؟ ردد البعض ما قاله الشيخ اللبناني عبد الله العلايلي: «لا يحول بيني وبين رأي أنه قليل الأنصار». وأن علماء الدين حشدوا هذا العدد من النساء ضد القانون باستغلال التعاطف الديني، وبامتلاك أسباب الثواب والعقاب حسب ما يعتقدون. بينما رد آخرون بضرورة الاعتراف بحقيقة ما يجري، وأن هذه الكثافة تعني ان هناك قناعات واستجابات، بغض النظر عن درجة الوعي.

إلى جانب هذا النقاش جرى نقاش آخر حول مرجعية الخارج، ويعنون بها النجف، فهي الأكثر أتباعا ومقلدين من مرجعية قم بالبحرين. ويحتد النقاش خصوصاً إذا كان الأمر يتعلق بفقه المعاملات لا العبادات، لأنه من المفروض أن يبقى وطنياً خالصاً، وإن تأثر يتأثر بتجارب قانونية وعدلية لا بفتاوى مرجعيات من خارج الحدود. يرد علماء الدين، من الناظرين إلى مرجعية النجف أو قم أنها الأصل الذي يتبع في المعاملات والعبادات، بأن حياتهم المذهبية مبنية على تقليد هذه المرجعية أو تلك، وأن المذهب أو الدين لا يعير أهمية للحدود الوطنية. هنا يجدر التأكيد على ما أوردناه للشيخ محمد مهدي شمس الدين في مقالة سابقة من وصيته للشيعة بضرورة الاندماج الوطني، وعلى حد عبارته: «أوصي أبنائي وإخواني الشيعة الإمامية في كل وطن من أوطانهم، وفي كل مجتمع من مجتمعاتهم أن يدمجوا أنفسهم في أقوامهم وفي مجتمعاتهم وفي أوطانهم» (الوصايا).

أضيف إلى ما ورد من مشاهدات سريعة في الشأن البحريني، أن الغالب من كتابات ومواقف المثقفين والصحفيين البحارنة باتت نزيهة من العصاب القومي حول الشأن العراقي. تجد لديهم صورة واعية أن ما يجري بالعراق إرهاب وليس مقاومة.