الرئيس بوش .. والنوم مع العدو

TT

مع اقتراب موعد البدء في حملة انتخابات الكونغرس الاميركي، مباشرة بعد عيد الشكر، نشط القفز من السفينة قبل أن تغرق، من قِبل الديموقراطيين الذين ايدوا الحرب على العراق، وكذلك من قِبل الجمهوريين. ومنذ يوم الثلاثاء 15 الجاري، والكونغرس مثل خلية النحل، الامر الذي أخرج نائب الرئيس ديك تشيني من «مخبئه»، ليرد على منتقدي الادارة ازاء ما اوصلت اليه الحرب، ودفع الرئيس جورج دبليو بوش وهو في جولته الآسيوية ليدافع بدوره وليقف الى جانب تشيني وليقول، إنه باق في العراق الى أن تنتهي المهمة.

كأن ضحايا هذه الحرب صارت اشباحاً، تقّض مضاجع رجال الكونغرس، فيقذفهم هؤلاء الى ردهات البيت الابيض، والى مكتب نائب الرئيس، وحتى الى طائرة الرئاسة «اير فورس وان»، التي يتنقل بها الرئيس. ففي مؤتمر صحافي يوم الخميس الماضي، أعلن النائب الديموقراطي جون مورثا، انه سيقدم قريباً مشروع قانون يدعو الى إعادة انتشار القوات البرية الاميركية خارج العراق، والى ارسال قوة تحرك سريع الى منطقة الخليج لاستعمالها ضد مخيمات الارهابيين. قال مورثا: «إن الحرب في العراق لا تسير حسب ما صُوروه لنا، وأصبح واضحاً ان استمرار العمليات العسكرية هناك، ليس في صالح الولايات المتحدة، والأمر نفسه بالنسبة الى الشعب العراقي والى منطقة الخليج».

 اهمية مورثا تكمن في انه من صقور الديموقراطيين، وعلى علاقات وثيقة مع المؤسسة العسكرية، وعضو في لجنة الدفاع في مجلس الشيوخ. قبل اعلانه هذا، كان المشرّعون الجمهوريون يعبرون عن قلقهم من احتمال ان تكون الحرب سببا في هزيمتهم في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، لذلك صوتوا يوم الثلاثاء قبل الماضي على ان تزودهم الادارة بآخر تفاصيل خطة سحب القوات الاميركية من العراق في السنة المقبلة، واحلال قوات عراقية مكانها. وقد وصف رئيس لجنة القوات المسلحة السناتور جون وارنر هذا الطلب بأنه إنذار واضح الى العراقيين بأن «واشنطن قامت بالجزء المتوجب عليها، وان صبرها بدأ ينفد».

ان الديمقراطيين الذين كانوا حتى فترة قصيرة منقسمين حول العراق، قرروا الهجوم السياسي بعد ان تزايد تململ الرأي العام الاميركي من استمرار الحرب ومن ان الادارة تصرفت بالتقارير الاستخباراتية من اجل تبرير الحرب وبلغ نسبة 57، وقادهم في هذه الحملة جون مورثا. من جهتها، حاولت الادارة بقيادة الرئيس بوش نفسه ان تشن هجوما معاكسا وتنعت اتهامات الديموقراطيين لها بعدم المسؤولية وبانها تهز معنويات القوات الموجودة في العراق، لكن هذه الجهود لم تغير في توجهات الرأي العام، خصوصا ان اتهام مدير مكتب نائب الرئيس «لويس سكوتر ليبي» بالكذب والتزوير زاد من قناعات الرأي العام بأن خللا قد وقع.

 جاءت هذه الحملة بعد الاتهامات التي اطلقها مدير مكتب وزير الخارجية السابق كولن باول، الكولونيل المتقاعد لورانس ويلكرسون القائلة إن تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد قادا «عصبة» سيطرة على الاقنية البيروقراطية والأمنية في الادارة، وخطفا السياسة الخارجية، من اجل دفع الولايات المتحدة الى الحرب. وقد انضم صوت جمهوري قوي الى حملة التشكيك هذه بشخص السناتور تشاك هايغل ـ احد المرشحين للرئاسة لعام 2008 ـ وانتقد الهجوم المعاكس للادارة ووجه اليها تهمة «تقسيم البلاد».

وفي وقت بدت الادارة مذهولة ومتحيرة، وفي موقف الدفاع، ظهر الديموقراطيون متحدين وراء اهداف محددة تدعو الى البدء في الانسحاب من العراق بعد الانتخابات المقبلة هناك في الخامس عشر من الشهر المقبل، وحسب جدول زمني يلحظ انسحابا كاملا مع العام المقبل.

وكان الرئيس الاميركي السابق بيل كلينتون، اعلن وللمرة الاولى الاسبوع الماضي، بأن قرار الحرب كان «خاطئاً»، فمهد بذلك الطريق لبقية الديموقراطيين كي يحذوا حذوه، وبالذات امام زوجته السناتور هيلاري التي كانت حتى الآن تعارض الانسحاب من العراق. اما جون مورثا، فتكمن اهمية دعوته، كونه قريبا من المؤسسة العسكرية، مما يعني ان المراقبين السياسيين سيستنتجون انه يتكلم باسم مجموعة من كبار الضباط صارت مقتنعة بأن الحرب كانت خطأ استراتيجيا.

وفي مجال تحذيره من ان مستقبل «جيشنا في خطر»، رأى مورثا بعد عدة رحلات الى العراق «إن قواتنا صارت مستهدفة، وإننا اصبحنا سبب العنف فيه»، ودعا الادارة الى ابلاغ العراقيين قبل انتخاباتهم المقبلة، بأن الولايات المتحدة سوف تعيد نشر قواتها.

ويعتمد الديموقراطيون في هذه الدعوة على خطة شاملة قدمها «مركز التقدم الاميركي»، حيث يعمل كبار المسؤولين السابقين في ادارة كلينتون، وهم انهوا اعداد هذه الخطة قبل حوالي الشهرين وهي تدعو الى إنشاء قوة تحرك سريع تنتشر في المنطقة للتدخل ضد العمليات الارهابية، وتدعو الى نشر قوات المارينز في البحار المحيطة على ان يتم نقلهم بسرعة الى العراق ، اذا ما تعرض لتدخل من قوات اجنبية (ايرانية تحديداً) في حال احتدام وتوسع الحرب الاهلية. وكان مورثا دعا الى تكثيف الجهود السياسية للمساعدة على استقرار الوضع في العراق.

مصدر اميركي قال لي، إن النقاش الحار الدائر في واشنطن هو بمثابة «بارومتر» عن الوضع الحالي في واشنطن وفي بغداد ايضاً، «لقد وصلنا الى لحظة مواجهة الحقيقة في الحرب وفي السياسة الاميركية تجاه الحرب، وعندما لا يمكن تحقيق النصر عسكريا، يمكن انهاء الحرب بالمفاوضات، وكما حصل في فيتنام كانت المفاوضات تجري والمعارك مستمرة».

 يُذكر انه في معركة الفلوجة الاولى، حقق الاميركيون اول اتفاق علني مع البعثيين، والآن مع احتدام النقاش في واشنطن، يقول محدثي ان الادارة لا يمكنها الاعتراف بأنها عاجزة عن الحاق الهزيمة بالمقاتلين السنّة، وهي لتحقيق هذا الهدف تحتاج الى مساعدة سنّة ليسوا بجهاديين، كالبعثيين، وكذلك تحتاج الى مساعدة الشيعة. ويضيف، انه من اجل الوصول الى ذلك، فإن واشنطن مضطرة الى ابرام صفقات متعددة مع اطراف كانت تعتبرها طوال السنتين الماضيتين، عدوة، وان اي تنازلات امام هذه الاطراف غير واردة. ويؤكد لي محدثي، ان هذا النوع من الاتصالات بدأ فعلا، وان الولايات المتحدة تبذل كل ما في وسعها للاتيان ببعثيين سابقين الى المشاركة في العملية السياسية، كما انها تعمل مع اشخاص مثل احمد الجلبي، المقرّب علناً من الإيرانيين، ولهذا كانت دعوته الاخيرة الى زيارة واشنطن ولقاء مسؤوليها، وقد اهتم به كثيرا المحافظون الجدد، لان نجاحه في مهمته، يمكن ان يخفف من الاتهامات التي تنصب عليهم، بأنهم ورطوا الولايات المتحدة في الحرب الغلط، وفي البلد الغلط.

يأمل البعض في واشنطن ان تنجح ادارة بوش في عقد صفقاتها هذه (مؤتمر القاهرة وزيارة الجلبي ولقاء الرئيس بوش في اليابان مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وتكليف موسكو ايجاد حل للمشكلة النووية الايرانية والتعهد بتأجيل طرح الموضوع على مجلس الأمن)، على اساس ان يسفر ذلك عن تقسيم السنّة ما بين جهاديين من جهة وبعثيين او غيرهم من جهة اخرى، وبعد ذلك تمكين البعثيين من فرض التوازن مع الشيعة من دون تحييد هؤلاء. ويرى البعض ان مثل هذه «الطموحات» تحتاج الى لاعب «اكروبات»، و«قد تكون من بين المواهب المخفية او المستحدثة للرئيس بوش موهبة القفز على الحبال»، كما قال احدهم في واشنطن، ويضيف ان وضع الادارة في العراق معقّد، انما ليس ميؤوسا منه، وتحديها الحقيقي يكمن في واشنطن حيث قاعدة دعم الجمهوريين تتهاوى، فإذا انهارت فان الخناجر ستشحذ على المسلخ العراقي. ويقول محدثي انه اذا لم ينجح بوش في ضبط الاوضاع في واشنطن، فان الوضع في العراق سينهار اكثر، والرئيس الاميركي يحتاج، من اجل الاستقرار في واشنطن الى ان يرد على اسئلة اعضاء الكونغرس حول ماذا يفعل في العراق؟ فهل يقول لهم إنه يعقد صفقات وانه يستعد «للنوم مع العدو»!