لبنان ... بين الوصاية والمظلة

TT

ما ضاق بلد بالشعارات الطنانة، مثلما يضيق لبنان اليوم. وما فشلت الشعارات في حل شجون بلد ما مثلما فشلت في لبنان.

تجارب نصف قرن من مقاربة المشاكل السياسية من كوة الشعارات المنمقة ـ والمسجعة لتسهيل استذكارها بلا كبير تفكير ـ لم تثنِ اللبنانيين بعد عن الانجذاب إلى الشعارات الموروثة على حساب الحلول المدروسة لمشاكلهم.

تجارب السنوات الست الاخيرة (زائد السنة المستعارة من حالة فقدان الوزن)، أثبتت انه حتى شعار «تحصيل الحاصل» في القرن الحادي والعشرين، أي بناء «دولة المؤسسات والقانون»، انتهى بمنح اللبنانيين دولة «الاجهزة والطوائف»... وقاضيا دوليا لتطبيق القانون في جريمة ارتكبت على أرض لبنان.

ذهنية الشعارات باتت جزءا بنيويا من النضال السياسي في لبنان الى حد أصبح فيه انتقال اللبنانيين من مرحلة سياسية الى مرحلة أخرى رهين الانعتاق من أسر الشعارات وثقلها المعنوي... الأمر الذي يدركه مطلقو الشعارات ومروجوها فلا يتركون للبنانيين فسحة كافية لالتقاط انفاسهم من تداعيات فشل شعار ما قبل أن يطرحوا شعارا بديلا.

في إطار هذا المسلسل، يبدو الشعار الاكثر رواجا اليوم في لبنان: «لا لاستبدال وصاية بأخرى»، واستطرادا «لا للوصاية الاجنبية» على لبنان.

قد تكون عبرة شعار رفض استبدال وصاية بأخرى على لبنان، اعترافه الضمني بأن لبنان خارج من «وصاية». ولكن بقدر ما تندرج حملة المطالبة برفض أي وصاية «أجنبية» على لبنان في خانة التخوف من ان ينتهي الخروج «من» الوصاية السورية، الى خروج «على» سورية نفسها، توحي الحملة ايضا بتسليم دفين بأن نظام «الوصاية» ـ سواء المباشرة ام غير المباشرة ـ هو قدر لبنان الصغير... إذا ما استقل.

وهذا القدر خبره لبنان منذ سنوات استقلاله الاولى، فعهد الاستقلال لم يكن، عمليا، أكثر من عهد انتقال من وصاية الى وصاية تبعا لتقلبات موازين القوى الدولية والاقليمية. فبعد الوصاية الفرنسية المباشرة في عهد الانتداب، جاءت الوصاية البريطانية، بعد الحرب العالمية الثانية، لتعكس تحول المملكة المتحدة الى صاحبة القرار الاول في شؤون منطقة «شرقي السويس».

ومع نجاح المد العربي القومي في ملء فراغ انحسار النفوذ البريطاني بعد «العدوان الثلاثي» على مصر عام 1956، انتقلت الوصاية السياسية على القرار اللبناني الى القاهرة التي مارستها عبر دبلوماسية السفير المصري في بيروت، عبد الحميد غالب.

وبعد انهيار الجمهورية العربية المتحدة، وفي وقت كانت فيه الولايات المتحدة منهمكة باستراتيجية «احتواء» الاتحاد السوفياتي، نشب بين وكلاء الدول الكبرى الاقليميين، صراع على الوصاية الاولى على قرار بيروت مدعوما من فرقاء في الداخل، فشهد لبنان في الستينات والسبعينات ما يمكن وصفه بمرحلة توازن هش بين الوصايات حسمته الحرب الاهلية، بادئ ذي بدء، لمصلحة اسرائيل (ومن وراءها)، ومن ثم لمصلحة سورية (ومن اصبح وراءها بعد الهزيمة الاسرائيلية في لبنان).

إذا جاز استخلاص العبر من التاريخ القريب، يصح الاستنتاج بأن المقاربة الواقعية لمستقبل بلد صغير، مستضعف ومشرذم كلبنان، ليست الالتزام العبثي بموقف رفض «عقائدي» للوصاية... بل «باختيار» واقعي لشكل من اشكال الوصاية الاقل افتئاتا على سيادته والأكثر مراعاة لثوابته الديمقراطية والعربية.

في ضوء التقويم العملي لقدرة لبنان المحدودة على المحافظة على استقلاله التام عن أي نفوذ خارجي، وبالنظر إلى حاجته الاقتصادية والسياسية الى العون الخارجي، تبدو «المظلة الدولية» الجماعية للكيان اللبناني (التي أوحى باحتمال تأمينها المسؤول الدولي ابراهيم غمبري في اعلانه، الاسبوع الماضي، عن توسيع صلاحيات الممثل الشخصي للامين العام للامم المتحدة في جنوب لبنان)... مناسبة نادرة لأن يستبدل اللبنانيون الوصايات التقليدية على قرارهم بمظلة دولية تبقى، مهما قيل فيها، أهون «الوصايات» جورا عليهم.