اغتيال العقاد : اغتيال الطموح والفرح..!

TT

فداحة الرزء بفقدان صديق كمصطفى العقاد، وبتلك الطريقة المأساوية البشعة، لا يمكن وصفها، إلا بأن منفذيها وحوش مفترسة، استُلبت عقولهم وقلوبهم وإنسانيتهم، فصاروا أشبه بـ«دراكولات» تتلذذ بامتصاص الدماء، فأشاعوا الخوف والهلع بما جُلبوا عليه من قتل للإبداع، والطموح، والفرح!!

نعم.. فمصطفى العقاد كان مبدعا، وطموحا، وكان يشيع الفرح أينما حل.

***

> عرفته في أواخر ستينات القرن الماضي في القاهرة، عندما قدمه لي الصديق محمد السنعوسي، وامتدت بيننا الصداقة إلى ما قبل اغتياله بساعات، حينما هاتفني طالبا أن نلتقي في مهرجان مراكش السينمائي ـ الذي باشر أعماله منذ أيام ـ وإذا لم أتمكن من ذلك فمن الممكن أن نلتقي في مهرجان دبي السينمائي الذي سيبدأ أعماله بعد أسابيع.

وكان العقاد ـ كعادته ـ بشوشا ضاحكا، وهو يحكي لي بعض الطرائف التي اعتدنا تبادلها عندما نلتقي، أو نتحدث عبر الهاتف. كان حرصه على أن نلتقي لأن لديه عملا سينمائيا ضخما، ويريد مني أن أكون أحد مساعديه لمراجعة نص ذلك العمل.

> وقد عاد بي طلبه هذا إلى ذكرى أربعة عقود مضت.. أيام التقيته في القاهرة، وتم الاتفاق أن أكون حلقة اتصال بينه وبين الكتّاب والفنانين المصريين، لوضع الخطوات التنفيذية الاولى لفيلم «الرسالة»، حيث تم الاتفاق على اختيار كتاب «محمد» لتوفيق الحكيم ليكون منطلقا لسيناريو ذلك الفيلم، على أن يكون المجال مفتوحا لاقتباس نصوص ومواقف من كتب تناولت مشاهد من حياة الرسول الكريم، وخاصة كتابي: «حياة محمد» للدكتور محمد حسين هيكل، و«على هامش السيرة» للدكتور طه حسين، وسواهما من الكتب الأخرى.

وقد عقد العقاد عدة اجتماعات مع توفيق الحكيم، كان حريصا فيها على إقناعه بحذف كل المشاهد التي تشتم منها إثارة الضغائن والأحقاد التاريخية عند معتنقي الأديان الأخرى، والتأكيد على إبراز الإسلام كدين محبة تشمل البشرية جمعاء. ولهذا فقد تم حذف معظم مشاهد الخلافات التي كانت سائدة ما بين اليهود والنصارى أثناء الدعوة الإسلامية الأولى، وتم التركيز في فيلم «الرسالة» على صراع العداء الذي كان يكنه كفار قريش للإسلام والمسلمين في بداية الدعوة.

وبعد ان تم الاتفاق على الشكل العام لأحداث الفيلم، وفقا لتوجيهات العقاد، كان لا بد من اختيار من يضع السيناريو، ثم استعراض العديد من الأسماء، فوجدنا أن الأنسب لكتابته هو الشاعر عبد الرحمن الشرقاوي، الذي كانت له شروط ـ لا مجال لذكرها الآن ـ تم قبولها، فكان يكتب المشاهد واللقطات أولا بأول باللغة العربية، ثم تتم ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية لكي تكون بمتناول كاتب السيناريو العالمي ـ الشاعر الآيرلندي ـ هيري جريك، الذي كان يعيد صياغتها باللغة الشاعرية الإنجليزية، لتعاد ترجمتها إلى العربية ثانية، وهكذا دواليك.

.. كانت ورشة العمل هذه تعمل تحت إشراف مصطفى العقاد ومحمد السنعوسي، وقد اتخذت لها مركزا في فندق النيل هيلتون، بينما كنت أقوم بإعداد ملفات احتوت على معلومات مكثفة لعديد من الممثلين المصريين، وكان العقاد يلتقي بعضهم كلا على حدة، بعد ان يطلع على ملفاتهم، ثم يدون ملاحظاته التي كان يحدد بموجبها صلاحية الادوار المناسبة لكل منهم.

> كان العمل في هذه الورشة قد أتاح لي فرصة التعرف على مصطفى العقاد عن كثب، فهو من أسرة حلبية متوسطة الحال، سافر إلى أمريكا لدراسة فن السينما، فوجد أن الظروف ملائمة للاستقرار هناك.

وكان بعد تخرجه يقوم بعدة نشاطات فنية ضمن نطاق فعاليات الجاليات العربية والإسلامية، فالتقى بمحمد السنعوسي الذي كان مبعوثا من الكويت لدراسة فن السينما والتلفزيون، فاشتركا معا في بعض الأعمال التي كانت تهدف إلى تسليط الضوء على الحضارة العربية والإسلامية، وتقديمها إلى المجتمع الأمريكي.

ومن خلال تعاونهما معا، اختمرت لديهما فكرة تقديم أعمال فنية إسلامية على مستوى عالمي لمخاطبة الناطقين باللغة الانجليزية.. وتم التخطيط على أن تكون باكورة أعمالهما هو انبثاق الدعوة الاسلامية في حقبتها الأولى، وتسليط الضوء على ذلك الصراع الذي خاضه رسول الله عليه الصلاة والسلام، إلى أن تم النصر لدين الله ليعم مختلف أرجاء المعمورة، كما صورته نهاية فيلم «الرسالة»، مع ادراكهما ان التطرق لمثل هذا الموضوع كان سيواجه بالكثير من المعوقات، والمحرمات، لكن العقاد والسنعوسي سارا فيما عقدا العزم عليه، متغلبين على كل ما كان يواجههما من مصاعب، فما أن تخطيا عقبة التمويل المالي لإنتاج الفيلم ـ وهي عقبة لم تكن هينة ـ حتى ظهرت لهما عقبة كأداء اخرى، كادت أن تطيح بالمشروع برمته، حينما أعلنت المؤسسات الدينية في أكثر من بلد إسلامي ـ عبر فتاواها ـ بتحريم ظهور صحابة رسول الله في السينما، وبالتالي فإن هذه المؤسسات لن توافق على إجازة نص فيلم ـ الرسالة ـ.

وكان مصطفى العقاد يناضل نضالا حقيقيا في التغلب على تلك العقبات، فهو عندما كان يفشل في القاهرة بإقناع رجال الأزهر بمشروعه يتجه فورا إلى بيروت ليلتقى بالإمام موسى الصدر الذي كان يمثل مؤسسة إسلامية معترفا بها، فيصدر له فتوى تجيز العمل من أجل إبراز الدين الإسلامي الصحيح عن طريق السينما للناطقين باللغة الإنجليزية.. وغيرها من اللغات الأخرى، ثم يأتي العقاد إلى القاهرة حاملا فتوى الصدر، لكن رجال الأزهر ـ وكان يمثلهم الدكتور عبد المنعم النمر ـ يرفضون تلك الفتوى، فيقترح عليهم العقاد حلا وسطا، وهو: أن رجال الأزهر سيشاهدون الفيلم بعد انجازه، وعلى ضوء مشاهدتهم له يجيزونه أو لا يجيزونه!!

وكان هذا الحل محفوفا بالمخاطر، لكن العقاد قبل التحدي، وجاءت النتيجة بعكس توقعاته، بعد أن رفض الأزهر إجازة فيلم «الرسالة» بعد مشاهدته، معترضا على ظهور الحمزة ـ عم النبي ـ في السينما، كما اعترضوا على ظهور العديد من الصحابة الآخرين في الفيلم، وصدرت فتوى الأزهر بتحريم عرض فيلم «الرسالة» في العالم الإسلامي.

لكن العقاد لم ييأس وظل يناضل، إلى أن تمكن من إقناع بعض القادة العرب والمسلمين من مشاهدة الفيلم، فأبدى البعض منهم إعجابه به، وسمحوا بعرضه في بلدانهم، وكان ذلك كسرا لطوق فتوى الأزهر!!

وما هي إلا فترة وجيزة واذا بالتلفزيونات العربية تتسابق إلى بث فيلم «الرسالة» في إحياء ذكرى المناسبات الإسلامية المختلفة!!

وإذا به يأخذ طريقه إلى معظم المدارس الإسلامية في أوروبا ليكون مقررا على التلاميذ في مادة التاريخ الإسلامي، بالاضافة إلى كل هذا وذاك، فقد كان فيلم «الرسالة» سببا مباشرا لاعتناق الكثيرين للدين الإسلامي.

***

إذا تجاوزنا الصعاب التي اجتازها العقاد مع ممولي الفيلم، والمؤسسات الدينية، ووقفنا أمام العراقيل التي صادفته اثناء تنفيذ تصوير الفيلم، فالحديث هنا بلا حرج. منها ـ على سبيل المثال ـ بعد أن تم بناء ديكورات مكة المكرمة في صحراء المغرب، واستمر العمل لعدة اشهر، حيث تم إنجاز ربع الفيلم تقريبا، وإذا بالعقاد يفاجأ بأوامر تصدر له بعدم الاستمرار في التصوير فوق الأراضي المغربية، ولم يملك سوى الإذعان لتلك الأوامر، ووقف العمل!!

ويعزو العقاد ذلك إلى أن حكومة المغرب قد تعرضت إلى ضغوط المؤسسات الدينية في الداخل والخارج، فكان لا بد من ذلك القرار.

ولكنه لم ييأس أيضا، فاتجه إلى ليبيا حيث وجد استجابة لطلبه لمواصلة التصوير في إحدى الواحات الليبية، شريطة ان يقدم أعمالا فنية تبرز تاريخ ليبيا عالميا، فأبرم معهم اتفاقا مبدئيا على أن يباشر في فيلم عمر المختار بعد الانتهاء من فيلم «الرسالة» مباشرة.

وعندما بدأ في تصوير فيلم عمر المختار، طلبوا منه أن يضع في سياق أحداث ذلك الفيلم ما يوحي إلى شخصية معمر القذافي، فكان ذلك المشهد الذي يظهر فيه طفل صغير يلتقط النظارة التي سقطت من الشهيد عمر المختار ليضعها على عينيه، ولينتهي الفيلم بهذه اللقطة التي توحي بأن ذلك الطفل سيكبر.. ويغدو هو الامتداد.

***

بعد هذين الفيلمين «الرسالة» و«عمر المختار»، دخل العقاد إلى عالم النجومية، وغدا القاسم المشترك لمعظم لجان المهرجانات السينمائية التي تقام في العالم العربي.

وكان العقاد يتصور أن النجاح الذي أحرزه في فيلميه سيمهد له السبيل لإنتاج أفلام أخرى بنفس الاسلوب الذي سلكه في إنتاجهما، فصار يكثر من الاقتراحات لمشاريع فنية كبيرة ذات ميزانيات ضخمة يصل البعض منها إلى مئات الملايين من الدولارات، وقد صرف الكثير من الوقت والجهد، محاولا إقناع العديد من الفعاليات الاقتصادية في البلاد العربية والإسلامية للمساهمة في تمويله لإنجاز تلك المشاريع، إلا أن تلك الفعاليات كانت مترددة بين الإقدام والإحجام، مما أدخله في صراعات أخذت منه الكثير من الوقت، كان من الممكن تفاديها بإشغال نفسه بإنتاج بعض الأفلام ذات الطابع المعاصر بدلا من الإصرار على «صلاح الدين الأيوبي» و«عبد الرحمن الناصر».. وغيرهما من الشخصيات التاريخية التي كان العقاد يطمح إلى تقديمها على غرار فيلميه اليتيمين.

***

رحم الله مصطفى العقاد.. الذي كان على خلاف حاد مع يوسف شاهين بسبب فيلم «المصير» الذي اعتبره العقاد قد أساء إلى الإسلام عندما صوّر الإرهاب في ذلك الفيلم!!

وإذا بهؤلاء المتأسلمين، يؤكدون للعقاد صحة أطروحة شاهين، عندما فجّروا فلذة كبده أمام عينيه، ثم الحقوه بها، كي تقر أعين سكنت الكهوف في أفغانستان، وهم ينتشون عندما يشهدون اغتيال الفرح، والطموح، والإبداع.