وفاق العراق : هل تتفتح الزهور .. أم تذبل البراعم..؟

TT

على الرغم من محاولات التشويش على الاجتماع التحضيري لمؤتمر الوفاق الوطني العراقي، الذي انعقد بمقر الجامعة العربية في الفترة من 19 إلى 21 نوفمبر الجاري، والمحاولة المتعقلة لعدم المبالغة في المتوقع من نتائجه، فإن أي مراقب موضوعي يجب أن يقر بأن الاجتماع كان ناجحا، وجاء تتويجا لجهود موفقة وشجاعة ودءوبة بذلها الأمين العام لجامعة الدول العربية بدعم من كافة الدول العربية، مما يؤكد حقيقة أن التحرك العربي ـ حتى إذا جاء متأخرا وحتى إذا حاول البعض احاطته بشكوك ارتباكا بتزامنه مع تزايد الورطة الأميركية ـ يستطيع أن يحقق نتائج إذا جاء هذا التحرك معبرا عن إجماع عربي بعد أن وضح لجميع المهتمين والمهمومين والمنغمسين في الشأن العراقي أن أي عزف منفرد، داخلي أو خارجي، شخصي أو متعدد الأطراف ليس مجديا، وأن الجهد الجماعي في الوقت الذي تتلاقى به خيوط التماس المختلقة كفيل بأن يحقق النتائج المرجوة أو على الأقل يفتح الطريق نحو تحقيقها، ولكي أكون واضحا فإنه لولا المأزق الأميركي وشعور واشنطن أنها لا تستطيع وحدها الخروج من ورطتها ولا تستطيع أن تفرض كل شروطها أو تحقق كل أحلامها أو أوهامها أو مخططاتها، لما سمحت لأصدقائها من العراقيين بأن يساهموا في الاجتماع بإيجابية، ولولا أن القوى العراقية المتصارعة أدرك كل منها أنه لن يكسب معركته ضد الآخرين بل أنه عليه أن يكسب مع الآخرين المعركة من أجل العراق ومستقبله، لما انعقد الاجتماع في القاهرة على النقاط التي تضمنها البيان الختامي حتى مع ما أحيط به من ملاحظات جانبية، ولولا إصرار الأمين العام لجامعة الدول العربية على زيارة العراق في ظروف أمنية وسياسية غير مستقرة حاملا تكليفا عربيا واضحا تحرك في إطاره في مواجهة الأطراف العراقية لما كان من الممكن أن يجلس في قاعة بيت العرب، جنبا إلى جانب رجال لم يسبق لهم، كما قال السيد عمرو موسى، أن اجتمعوا وتحدثوا وتحاوروا، وهذا في حد ذاته نجاح نتج كما ذكرت بسبب تلاقي مصالح، حتى إذا كان كل طرف قد جاء إلى اللقاء يحمل بضاعة بعضها جائر وبعضها فاسد، وبعضها ينتمي إلى باب حسن النيات والبعض الآخر ينتج من غير ذلك من النيات الخفية. ولست شخصيا أعتقد أن الذئاب أصبحت حملانا، وأن الخلافات كلها سويت، ولكني أعتقد أن الجهود العربية المخلصة دفعت الأمور في الاتجاه الصحيح، الذي يجب الحفاظ عليه حتى يصل العراق الشقيق المستقل الموحد الآمن إلى بر الأمان الحقيقي، الذي تضمن فيه حقوق كل العراقيين من دون تفرقة أو تمييز.

والقراءة الدقيقة للبيان الصادر عن الاجتماع تدعو إلى كثير من الأمل، وأن كانت توحي أيضا كما يوحي بالقلق بعض ما تسرب من كواليس الاجتماعات، حول استمرار تحفظات واختلاف في التفسيرات والمفاهيم، مما يؤكد ضرورة استمرار الجهد من جانب الأمين العام ووزير الدولة الجزائري المبعوث الشخصي للرئيس بوتفليقة رئيس القمة العربية ومستشار الرئيس السوداني رئيس القمة القادمة، حتى يمكن السير قدما. وأود قبل أن أتطرق إلى التعليق على ما ورد في البيان الختامي للاجتماعات، ان أطرح سؤالا اعتقد أن المنطق يملي توجيهه، فلعل أحدا لديه إجابة مقنعة عليه. والسؤال يتعلق بالانتخابات البرلمانية القادمة في العراق، فأنا بكل صراحة أتساءل إذا كان من الملائم إجراء تلك الانتخابات قبل استكمال الجهود الحالية لتحقيق الوفاق الوطني، ولقد كان من رأيي أيضا ان الجهد المشكور الحالي كان يجب أن يسبق إقرار الدستور، الذي أثار ما أثار من نقاشات انتهت إلى حل مبتور يتلخص في الوعد غير المحدد بتعديله بعض الانتخابات التشريعية، وكأننا قلبنا كل الأمور بدلا من أن يكون هناك توافق مسبق تجرى على أساسه انتخابات لمجلس يصبح جمعية تأسيسية، تضع دستورا يتفق عليه الجميع. وفي الحقيقة فأني مندهش للأسلوب الغريب وغير المنطقي الذي أتبع في هذا الشأن، والذي يبدو أن هناك إصرارا على الاستمرار فيه، وكأن كل مرحلة من تلك المراحل منفصلة عن الأخرى. وقد تكون هناك حكمة في إجراء الانتخابات قبل مؤتمر الوفاق حتى يتضح وزن كل طيف، مع أن هذا في حد ذاته قد يدفع بعض تلك الأطياف لتتخذ في المؤتمر مواقف متشددة استنادا إلى وزنها النسبي في العملية الانتخابية. وعموما يبدو أن ما أتحدث فيه لم يبحث وإذا كان قد بحث فإنه لم يقبل، ولذلك لا أريد أن أتوقف أمامه كثيرا، وأنتقل إلى البيان الختامي لاجتماع اللجنة التحضيرية الذي أود أن أعلق على بعض نقاطه فيما يلي:

أولا: أكد البيان «الالتزام بوحدة العراق وسيادته وحريته واستقلاله وعدم السماح بالتدخل في شؤونه الداخلية، واحترام إرادة الشعب العراقي وخياراته في تقرير مستقبله بنفسه» وهذا كله كلام لا غبار ولا خلاف عليه. إلا أن جملة قيل إنها أضيفت في آخر لحظة تشير إلى «احترام إرادة الشعب العراقي وخياراته الديمقراطية في إطار التعددية ونظام اتحادي» وتصريح زعيم المجلس الأعلى للثورة العراقية أمام وفود عشائرية بأنه سيسعى لإقامة فيدرالية الجنوب بعد الانتخابات البرلمانية أثارا أزمة أمكن التغلب عليها بالاكتفاء بتحفظ السنة على الإشارة إلى النظام الاتحادي بعد أن كانوا قد هددوا برفض البيان كله.

ولعل هذا يوضح ان الخلافات مازالت عميقة بالنسبة لبعض الموضوعات الهامة، وأنه تم تأجيل البت فيها إلى المراحل اللاحقة من الإعداد للمؤتمر أو للمؤتمر ذاته، للحفاظ على مظهر التوافق باعتباره يخلق ديناميكية وروحا بناءة قد تساعد على تخطي العقبات، وقد يكون هذا تكتيكا له فائدته، ولكنه يعني أيضا ترك قنابل موقوتة تحت المائدة قد تؤدي إلى تفجير العملية كلها.

ثانيا: تناول البيان في فقرتين الموضوعات الحساسة المتعلقة بالوجود العسكري الأجنبي، والمقاومة والإرهاب بأسلوب يثير كثيرا من التساؤلات على ضوء المواقف المعروفة للأطراف المختلفة، فمن المعروف أن الحكومة العراقية يهمها بقاء القوات الأميركية، كما أن الولايات المتحدة ترفض الالتزام بجدول زمني للانسحاب، بحجة أن ذلك يشجع القوى المناهضة على أن «تنتظر تنفيذ ذلك الجدول لتعاود نشاطها المعادي». وفي نفس الوقت فان الإشارة إلى شرعية المقاومة أمر لا يمكن أن يكون محل اتفاق حقيقي لان الحكومة العراقية، التي تقبل الوجود العسكري الأجنبي بل تطالب باستمراره لفترة قد تطول، لا يمكن منطقيا أن تعتبر التصدي لذلك الوجود «مقاومة مشروعة»، كما أنه ليس من المنطقي أن تقبل تلك الحكومة أو الولايات المتحدة بأن يكون تعريف الإرهاب، الذي أدانه البيان، مقصورا على أعمال العنف التي تستهدف المدنيين والمؤسسات الإنسانية والمدنية ودور العبادة، بما يعني منطقيا أن استخدام العنف ضد القوات الأجنبية، وهي محتلة في العرف السائد، أو حتى قوات التحالف كما يحلو للبعض أن يسميها ويمنحها غطاء قرارات مجلس الأمن، لا يعتبر في عرف من أصدروا البيان إرهابا. ومن ذلك يتضح أن صياغة الفقرتين تحمل في طياتها محاولة لاخفاء خلاف حقيقي وخطير.

ثالثا: عدد البيان إجراءات لبناء الثقة ستتولى الإشراف على تنفيذها لجنة يرأسها الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل مستشار رئيس جمهورية السودان، الذي سيتولى فيما فهمت مهمة الممثل الخاص لأمين عام جامعة الدول العربية، وهذه الإجراءات المنصوص عليها واسعة المدى والنطاق، وسوف يكون من المهم إيجاد الوسائل الناجعة لتنفيذها، ومن الضروري أن تكون هناك ضمانات بما يعنيه ذلك من إجراءات للتشجيع والردع، وهو أمر يصعب تصوره في الظروف الحالية وسوف يعتمد على حسن النيات، وهو ما قد يكون متوفرا في غمرة الارتياح لمجرد دور البيان، ولكن هذه النيات قد تتأثر بالانتخابات وحماس الحملات الانتخابية أو غير ذلك من الأحداث التي لا يمكن تجنبها.

رابعا: تبقى نقطة قد تثير أيضا خلافات وهي تطبيق معايير المشاركة في مؤتمر الوفاق الوطني الذي سيعقد في فبراير ـ مارس 2006، تحديد مكان انعقاده على وجه التحديد في بغداد.

هذه ملاحظات نبعت من قراءة سريعة للبيان، ليس الهدف منها إثارة التشاؤم فما تحقق كثير وهام ويجب أن نشكر كل من ساهم في التوصل إليه، ونحمد للأمين العام جهده الدائب والجسور، ولكني فقط أردت أن أذكر أن الطريق وعرة، وأن العقبات مازالت كثيرة رغم تغليفها في غلاف الإجماع الذي تنطبق عليه مقولة «إني لا أكذب ولكني أتجمل»، ولذلك فإن الجهد يجب أن يستمر، والحوار يجب أن يتواصل، ومحاولات قوى خارجية لإجهاض الأمل البازغ يجب أن تواجه بكل قوة وحزم حتى تتفتح براعم الأمل التي حملها الينا البيان ويثمر ما وصفه لي ممثل دولة أجنبية من «أن تبادل الزعماء العراقيين أرقام هواتفهم بعد أن كانوا لا يتكلمون معا بل لا يعرف بعضهم البعض الآخر بالمرة هو بداية مأمولة لعهد جديد» يمكن أن يخرج الجميع من الورطة التي وضعت السياسة الأميركية الخرقاء العراق والمنطقة بل الولايات المتحدة ذاتها وحلفاءها فيها، والتي لا يستفيد منها إلا آلهة الموت والدمار.

فهل تتفتح الزهور أم تذبل البراعم ويتلاشى الوعد بخروج الشعب العراقي من النفق المظلم الدامي؟

* وزير الخارجية المصري السابق