سذاجة التاريخ

TT

ذات مرحلة ظنت بريطانيا أنها سوف تنتقل من هذه الجزيرة الباردة والمحاطة بالبحار العاصفة، إلى شمس الهند وخصوبة القارة. وهناك، تقيم بريطانيا الأخرى. التاج الآخر. وكذلك ظنت فرنسا، إلى سنين طويلة، أنها ستلحق كروم الجزائر بكرومها، وتعيش في الدفء. وما عليك من كتابات البير كامو وروايته عن «الطاعون» في وهران. وقالت بريطانيا قبل ذلك إنها سوف تنتقل من هذه الجزيرة الصغيرة الباردة، إلى «العالم الجديد»، وتكون لها سهول التبغ في فيرجينيا. ونقلت معها العبيد من أفريقيا لكي يحرثوا في الأرض ويموتوا في الذل وتعطى لهم الحفر في الأرض يقطنونها في الصقيع. وعندما ثار عليها الرجل الأبيض مطالبا بالاستقلال، لم تجد حليفا لها سوى الأفارقة، فوعدتهم بالحرية، وبوطن جديد لها ولهم في أصقاع كندا. وقبلوا الانتقال من حفرة باردة إلى حفرة اشد بردا. ما أغلى الوعد بالحرية. لكن بريطانيا تراجعت عن حلمها في أميركا ثم في كندا ثم في الهند ثم في غرب السويس ثم في شرق السويس. وحزمت حقائبها من الهند والملاوي وأفريقيا وأفيون الصين والعالم العربي. وعادت إلى هذه الجزيرة. واكتشفت الآن أنها أكثر غنى مما كانت عليه في كل العصور البريطانية. وان الهنود الذين كانوا يقومون على رعي الأفيال للضابط البريطاني، يتصدرون الآن لائحة أغنى الأغنياء. ويأتيها الصينيون للعمل وجني الثروات. وأصبحت تشتري الشمس بعقود قانونية في إسبانيا والبرتغال ودبي وتركيا. ولم تعد في حاجة إلى «الكومنولث» الذي أنشأته كبديل اقتصادي لنفوذها السياسي. بل ربما نسيت الآن انه كان موجودا. ولم تعد تسافر إلى أفريقيا وتمشي بين التماسيح وتصفّر بالملاريا ويحقنها الذباب بالنعاس والنوم.

هل كان لذلك الزمن الاستعماري ضرورة في أي وقت؟ وحروب جنوب أفريقيا والسودان والملايو وبلاد المهراجات؟ وماذا نقص منها عندما عادت الشمس تغيب فوقها، بعدما كانت لا تغيب عن إمبراطوريتها التي قامت على ظهور السفن والبغال؟

لقد طارد البريطانيون الشمس بالمدافع. وكان ذلك غباء إمبراطوريا وعجرفة تافهة. إنهم الآن يبيعون ضباب لندن لأثرياء الشمس كما كانوا يبيعون الماس الأفريقي في أسواق بلجيكا. ولولا بقايا الحلف مع أميركا، لما كان لهم عسكري خارج هذه الجزيرة الصغيرة والباردة والمحاطة بأسوأ أنواع البحار المتقلبة الأهواء والأنواء. لكنه التاريخ، يكتب نفسه على هواه، وأحيانا يظن انه لا غنى له عن الجغرافيا. السذاجة الأزلية.