على كيفك

TT

أن تعرف أو لا تعرف تلك هي المسألة، فالمعرفة جزء من العلم والعلم نور والنور نقيض الظلام.

ومنا من يفضل ألا يعرف لكي لا تتعبه المعرفة لأنك ان سرت نحو النور، اصبحت مسؤولا عن كل خطوة وكل فعل. بالأمس وأنا على متن طائرة، قرأت خبرا من تلك الاخبار العابرة، التي يمكن ان تمر عليها ثم تناسها في خضم انشغالك بهمومك الشخصية أو بهموم أكبر وأشمل. باختصار قال الخبر إن صناعة البن في البرازيل، اعدت خطة لتقدم القهوة لمليون تلميذ في المدارس البرازيلية، وبموجب الخطة تعهدت كل شركة من شركات تحميص البن في الدولة، ببناء مدرسة تضم 500 طفل على الاقل، تقدم لهم افطارا مجانيا من القهوة والخبز.

وأيد الخطة مستشار علمي للمشروع، قائلا إن الأطفال يتناولون المشروبات الخفيفة، فلا مانع من ان تكون القهوة بديلا، لجعلهم اكثر يقظة وانتباها.

ان تجعلك القهوة اكثر يقظة وانتباها، هو امر متفق عليه علميا، بسبب ما تحتويه القوة من مادة الكافايين، ولكن ان تقدم لك القهوة مجانا، وانت في السابعة أو الثامنة، وكأنها نفحة من نفحات الكرم الحاتمي، الذي تتحلى به الشركات المنتجة للبن، فهو أمر آخر.

بعد أن طويت الخبر، تذكرت أنني لم اشرب فنجانا من القهوة، الا بعد سن الثلاثين. فقد نشأت في بيت اعتبرت فيه القهوة، مشروبا يقدم للكبار، وخاصة الزوار من الرجال. وكانت ثقافة البيت والمجتمع تستهجن اصحاب الكيف من الشباب، حتى لو كان الكيف فنجان قهوة. واذا تجاوز الكيف القهوة الى السيجارة، دوت نواقيس الانذار بلا هوادة، حتى يعود الكيف الى سواء السبيل. ولن انسى ما حييت، مقولة امي من ان خيبة التلميذ تبدأ بسيجارة. ولن انسى ايضا ان الأسرة كانت تجتمع على رفض اي خاطب، اذا عرف انه يدخن.

صاحبتني تلك الافكار طوال سنوات عمري، مهما اختلفت الازمنة والاماكن. وكثيرا ما أحمد تلك الظروف، خاصة في بدايات شهر الصوم. فأنا أصوم، والحمد لله، ولا اشعر بضيق او بصداع في اول ايام الصوم، بسبب قلة الكافيين أو النيكوتين أو أي مادة اخرى، تنتهي تسميتها بالياء والنون. فالكيف هو حالة من الاسر تجعلك عبدا أسيرا للمادة، التي يتعود عليها جسمك وجهازك العصبي، بحيث يمكن ان تستغني عن الطعام والشراب ولا تستغني عنها ابدا.

ذكرني الخبر بما اقدمت عليه الشركات المصنعة للتبغ، حين انخفضت مبيعات السجائر في الدول المتقدمة، بسبب حملات التوعية التي تحتم على الشركات ان تطبع على علب السجائر، انذارا مكتوبا يقول بأن الدخان مضر بالصحة، واصبحت فئة المدخنين شبه منبوذة، في الاماكن العامة كالمطاعم والمسارح ودور السينما واماكن العمل. وطبق الحظر على السجائر في قطاع الاعلان. عندئذ اعتمدت شركات التبغ خطة جديدة لتنشيط المبيعات في العالم الثالث، مهما كانت تلك الدول فقيرة. أرسلت شركات التبغ مندوبيها الى الدول الفقيرة توزع السجائر مجانا على الشباب والمراهقين. فالسيجارة الاولى والثانية وربما العاشرة، تكون مجانية الى أن تأسر الفئة المعرضة للادمان، فيصبح الشراء ضرورة من ضرورات الكيف.

البرازيل هي أكبر دولة منتجة للبن في العالم. ولكنها ليست اكبر مستهلك للبن. فمعدل الاستهلاك للفرد يعادل ثلث ما يستهلكه الفرد في فنلندا مثلا او غيرها من الدول الاسكندنافية. ومن ثم نهضت الشركات البرازيلية المنتجة للدفاع عن مصالحها، وتنشيط تجارتها، ولو على حساب اطفال المدارس، بحيث يبدأ الكيف في سن مبكرة جدا.

ان تعرف أو لا تعرف، تلك هي المسألة. وليس من يعرف كمن لا يعرف.