الشرود والبحلقة

TT

الكثير من البشر مصابون بلوثة الشرود والنسيان، ولا شك أن ذلك ناتج عن خلل في الذاكرة ولا أقول بالعقل، بعضه حميد وبعضه خبيث، الحميد قد يدفع ثمنه صاحبه، والخبيث يؤذي به الآخرين.

ولقد عرفت احدهم لديه ذلك الشرود الحميد، وكان منزعجا من آفته تلك وما تسبب له من إحراج مع الناس، وما تسبب له في نفس الوقت من مآزق وخسائر، وقد شكا لي في احد الأيام علته هذه، وكأنني طبيب نفساني، فقلت: إنني ألاحظ عليك تلك الصفة منذ وقت طويل، وقبل أن تحكيها لي، لكنني أريد أن أسألك سؤالا بسيطا: هل أنت تعرف انك شارد الذهن فعلا؟!، فقال لي: نعم، فقلت له: إذن لا خوف عليك لأن شرودك في هذه الحالة حميد، والمصيبة إذا كنت لا تعرف انك شارد الذهن، عندها يكون شرودك خبيثا، ولا علاج له غير أن (يربطوك) مثلما تُربط البهيمة.. فرح جداً بما توصلت إليه من تشخيص واستنتاج، وكأنني فتحت له طاقة الأمل بعد أن أغلقت في وجهه، فأخذ يفضفض لي بإسهاب وثرثرة إلى درجة أنني تمنيت لو لم افتح له تلك الطاقة. وقال لي: تصور أن أمس الأول أحضرت النجار لثاني مرة لكي يصلح باب مكتبي ويركب زجاجا جديدا له، قلت له: لماذا؟!، فقال لأنني أغلقته دون أن افطن أن المفاتيح داخله، وفي كل مرة كنت اضطر إلى كسر الباب أو الزجاج لكي ادخل، وقد خجلت من نظرات النجار نحوي في المرة الثانية، والآن فقط تذكرت أنني نسيت المفاتيح للمرة الثالثة، وسوف ابحث عن نجار آخر، «لأن الكسوف مغطيني من راسي إلى ساسي»، قلت له: كان الله في عونك.. فقال: ان شرودي بالنسبة للمفاتيح أهون من المطب الذي حصل لي مع زوجتي، قلت له: يا ساتر ماذا حصل؟!، قال: يا سيدي لقد سلفت سيارتي ليوم واحد لأحد أصدقائي دون أن تعلم زوجتي التي هي ضد مبدأ التسليف، ثم أرجعها، وفي ثاني يوم ذهبت مع زوجتي إلى حفلة عشاء كنا مدعوين لها، وركبت معي وهي ضاربة نفسها (بالشيطان الرجيم)، قلت له: يعني إيه؟!، قال: يعني كانت متشيكة آخر شياكة، وعندما وقفت بسيارتي عند إشارة مرور حمراء، ضربت بعيني وإذا بفردة حذاء نسائية عند أقدام زوجتي، فخمنت أنها من بقايا صاحبي الذي سلفته السيارة، ففتحت الشباك، وأخذت أشير إلى الخارج لافتا نظر زوجتي إلى مكان ما وعندما أخذت تنظر، انحنيت في أسرع من لمح البصر والتقطت فردة الحذاء وقذفت بها في الخارج دون أن تنتبه هي، عندها تنفست الصعداء وأخذت أدندن، وعندما وصلنا، أتى من يفتح الباب لزوجتي التي لم تنزل، بل أخذت تتخبط ذات اليمين وذات الشمال، وسألتها بحدة: لماذا لم تنزلي؟ الناس ينتظرونك، فقالت: جزمتي، جزمتي فين راحت، قلت لها يمكن: نسيتيها في البيت، فصرخت في وجهي معقول ألبس فردة وأنسى الثانية! هل أنت مجنون أم أنت تتريق عليّ، عندها تذكرت وكأن أحداً لطمني على وجهي، إذ أن فردة الحذاء التي رميتها كانت لزوجتي وقد خلعتها المسكينة في السيارة لتريح رجلها، قلت له وقد أعجبتني الحكاية: هاه وبعدين ماذا حصل؟!، قال لا أستطيع أن احكيه لك لأنه لا ينحكي من كثرة (الدراما) التي كانت فيه. هذا الزوج من كثرة شروده كان سائرا مع تلك الزوجة في احد شوارع مدينة أوروبية، ومن كثرة بحلقته بالنساء نهرته زوجته قائلة: انتبه لنفسك إن من يشاهدك يظن انك لم تر سيقانا من قبل، فقال لها دون أن يعي: هذا ما كنت أفكر فيه فعلاً.. كيف عرفتِ؟!، وكان جوابها له ليس بالكلام، ولكن بالفعل.

[email protected]