... في حضرة الملك عبد الله

TT

المملكة العربية السعودية جزء من المشكلة ام مفتاح لحل معضلة الاستقرار في الشرق الأوسط؟ هذا هو السؤال الفارق!

بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وتكرار مقولة الـ15 من 19 في صحف الغرب وتلفزته، صورت السعودية مجتمعا ونظاما على انها جزء من المشكلة، لكن من يستمع ويرى دونما أحكام مسبقة مقولات خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز لا يفوته ملاحظة التوجه الاستراتيجي (strategic direction) الذي يضع المملكة في قلب أحداث الشرق الأوسط الساخنة، بداية من أزمة سوريا مع مجلس الأمن الدولي، الى التوصل الى حالة استقرار في العراق، الى الملف الفلسطيني حتى الإصلاح الداخلي وتدعيم شرعية الدولة. فمنظومة الأفكار والمفاهيم الحاكمة لهذه الرؤية الواضحة وذلك التوجه الاستراتيجي المتماسك بدت كلاّ متكاملا في ما قاله جلالة الملك عبد الله بن عبد العزيز في لقاء خاص خصني به الأيام الماضيمة وزميلي الأستاذ جهاد الخازن. توجه يكشف ان المملكة مفتاح الحل لا العكس.

من يقترب من الملك، لا ليسمع فقط وإنما ليلاحظ تعبيرات الوجه، وإشارات اليد، وثبات العينين، لا تفوته ملاحظة انه أمام رجل يتمتع بثقة حضارية، يقف خلفها ثقل سياسي ومالي يجعل المملكة العربية السعودية لاعبا أساسيا في الساحتين الإقليمية والدولية، إضافة الى الحكمة التاريخية المتوارثة عن الملك المؤسس لمملكة أفعال مدروسة لا مملكة أقوال طائشة.

السعودية اليوم وفي ظل ملك كهذا وبثقلها السياسي والمالي، خصوصا بعد تلك الطفرة في أسعار النفط، لا بد ان تكون لاعبا رئيسيا في الملفات الساخنة في المنطقة، فبدا واضحا من حديث الملك لنا ان الإرادة السياسية موجودة، ولكن كل الدول ربما تكون لديها إرادة سياسية، فهل في المنطقة من دولة لديها نفس الأدوات الروحية والمالية والدبلوماسية كي يناط بها هذا الدور وتكون مفتاح الحل؟ بالطبع لا!

قدرة المملكة على إقناع الخمسة الكبار في مجلس الأمن الدولي بالموافقة على المقترح السعودي لنقل استجواب المسؤولين الامنيين السوريين من بيروت الى جنيف، تعني تعاظما للدور السعودي في قضايا حساسة إقليميا. فالخمسة الكبار لا يتفقون بسهولة حتى فيما بينهم، فماذا عن الملك وعن المملكة وربما عن موفده الأمير بندر بن سلطان ووزير خارجيته الأمير سعود الفيصل الذي غير من وجهة نظر الدول العظمى تجاه سوريا؟!

ظني ان الأمر مربوط بانطباع تكون لدى القادة في الدول الكبرى عن الملك عبد الله، هذا الانطباع الايجابي عن صراحة الملك ووضوحه فيما يقول مدعوما بثقل المملكة المالي والسياسي وقدرتها على التنفيذ هو بداية القراءة الصحيحة لما حدث. فمن قبل استطاعت المملكة ان تلعب دورا أساسيا في تخليص ليبيا من ورطتها مع المجتمع الدولي، وكان الأمير بندر موفد الملك أيامها، واستطاعت المملكة أيضا بثقلها السياسي ان تنهي الصراع الأهلي في لبنان عن طريق اتفاق الطائف الذي، وحتى وقتنا هذا، ما زال هو الاسمنت الذي يحفظ للموزاييك اللبناني تماسكه، ضمن هذا الرصيد السياسي للمملكة، والذي يؤكد للعالم ان السعوديين لا يدخلون في أمر الا اذا كانت لديهم الرغبة والإرادة والقدرة على حلّه، تعاظم هذا الدور أيضا من خلال مبادرة الملك عبد الله في بيروت 2002 والتي عرفت فيما بعد بالمبادرة العربية لحل الصراع العربي الإسرائيلي.

في السياسة كما في عالم المال تحتاج الدول كما يحتاج الأفراد الى سمعة طيبة (good credit)، والمملكة لديها الرصيد في هذا ولديها السمعة عند الدول الكبرى، وتضاعف هذا الرصيد بمجيء الملك عبد الله الى سدة الحكم، فالرئيس بوش، مثلا يقول عنه انه رجل واضح «straight» هذا ما نقول عنه في مصر بأنه «رجل دوغري» أي لا مواربة فيما يقول.

ربما هذه الصراحة وعدم المواربة والتي كانت واضحة في حديث الملك لنا وكذلك في ملامح وجهه وحركات يده، هي التي جعلته قادرا على ترميم العلاقة السعودية الأمريكية رغم ما أصابها من عطب بعد 11 سبتمبر 2001، فلو حدث هذا الشرخ في العلاقات بين أمريكا وأي دولة أخرى غير المملكة لربما رأينا الدبابات الأمريكية في الشوارع ورأينا حاملات الطائرات في المياه الإقليمية لتلك الدولة، خصوصا في ظل أجواء التحريض والتربص لدى الدوائر المعادية. قدرة القيادة السعودية على تعديل الأوضاع وترميم تلك العلاقة الاستراتيجية في عالم اليوم المتقلب اقرب الى المعجزة منها الى العمل السياسي. أيضا هذا يضيف الى رصيد المملكة ورصيد الملك في قدرتها على التحلّي بالصبر وبالسرّية في التعامل مع القضايا الحساسة، لذا لم استغرب عندما عرفت بأن للمملكة ادواراً متعددة في أعقد ملفات المنطقة السياسية.

ولا أتوقع ان الدور السعودي قد توقف في الملف السوري او اللبناني عند الوساطة في التوصل الى اتفاق بنقل مقر التحقيق الى مكان «يحفظ كرامة سوريا». ظني ان الدور السعودي في محاولة إنقاذ سوريا ربما يكون اقرب الى دورها في إنقاذ ليبيا. نحن أمام بداية لعبة اكبر لا في نهايتها.

وزيارة الأمير بندر الى سوريا التي تلت الاتفاق هي مجرد مؤشر، فعندما يرسل المطبخ السياسي السعودي الأمير بندر بتوجيه ملكي الى دولة ما يعني ذلك ان اللعبة معقدة وان الاستراتيجية متكاملة، وان الموفد لديه صلاحيات لا حدود لها.

القصة ليست دور السعودية في إنقاذ سوريا من ورطتها او منحها غطاء سياسيا كي تبحث لنفسها عن مخرج «يحفظ للشعب السوري كرامته»، كما قال الملك، القصة بالنسبة لي هي ان للمملكة دورا في العراق واستقراره، ودورا في الصراع العربي الإسرائيلي، وان المملكة لديها توجه إصلاحي داخلي في ذات الوقت، إذن نحن امام استراتيجية واضحة ومتكاملة، لا تتعامل مع القضايا متفرقة.

خذ الشأن العراقي كمثال ودور السعودية فيه، كي تتعرف على ملامح تلك الرؤية المتكاملة، فمثلا ما هو مطروح إيرانيا وأمريكيا وحتى عراقيا هو الحديث عن ديموقراطية عراقية او نظام فيدرالي ينظم العلاقة بين الشيعة والسنة والأكراد، أي اننا أمام تصورات طائفية للوضع في العراق، في المقابل طرحت المملكة عروبة العراق، أي العروبة كمظلة اكبر يدخل تحتها الشيعة والسنة، وبذلك تخرج المملكة العراق من براثن الطائفية الضيقة، الى رحابة أفق العروبة. بالطبع للمملكة مصالحها الخاصة في هذا الطرح وأولها هو الحد من تعاظم الدور الإيراني في جنوب العراق، هذا الدور الذي استفاق عليه الأمريكيون مؤخرا عندما أدركوا بأنهم سلموا جنوب العراق لإيران دون ان يدروا. قدرة المملكة على طرح مفاهيم بديلة وحاكمة تساهم في استقرار العراق وقدرتها على تحريك العشائر في داخل العراق، وكذلك القوى العراقية المختلفة التي تؤمن بدور سعودي بناء في العراق، يجعلنا أمام توجه استراتيجي متكامل ومتماسك. ما لفت نظري في الحديث الذي خصني وزميلي به جلالة الملك هو إلمام جلالته بأدق تفاصيل تلك الملفات الشائكة. وخارج هذا التوجه الاستراتيجي الذي يجعل دور المملكة محوريا في المنطقة ويجعلها جزءا من الحل لا جزءا من المشكلة، تحدث جلالته بصراحة عن سياسات المملكة من البترول الى الإصلاح، كان حديثا صريحا مليئا بالمفاجآت، ولكن ربما كان لهذا حديث آخر او مقام آخر.