جدلية الحجز والتعذيب: الحالة الأمريكية

TT

من فترة لأخرى تستوقفنا صور وأقصوصات عن معتقلين يتعرضون لانتهاكات مذلة للإنسانية والمواثيق، يعقبها الكثير من التحليل والانتقاد أو الدفاع، وأحياناً الاعتذار، فمن سجن أبوغريب وكيف تضطر إلى تقليب زوايا ما تراه حتى يستقيم استيعابك له، فاللحم المعرّي المتراكم يحتاج لبعض الجهد لفض اشتباكه لعينك أولاً، إلى الصور البرتقالية المأخوذة خلسة من بعيد، أو هكذا تبدو، لمعتقلي غوانتانامو، مع أسطر مقتضبة عن حرمان البائسين في كوبا من التمتع بالحقوق القانونية المنصوص عليها، إلى المركز العسكري للاستجواب في قاعدة باغرام الجوية في أفغانستان، صاحبة الضجة الأقل للتعتيم المفروض عليها، إلى أقبية الداخلية العراقية ـ حديثاً ـ والمشاهد المؤذية لتشوهات المساجين الجسدية، إلى قائمة لا تقف ولا تنتهي، تأتي على رأسها السجون الإسرائيلية وممارساتها الخارجة ضد الفلسطينيين، والتي قد نتخيل معها ظروف الاعتقال، وطرق الاستجواب الخاضعة لحرية تصرف سلطة المحتل، والمعطلة بالطبع للعهود والأعراف، فلا صور يأخذ بأمرها وإن تسربت، ولا قصص يلتفت لنصها وإن رويت، أو حتى وثقّت. فما حدود التعذيب التي نصت عليها الاتفاقيات، فإذا ما تجاوزتها أطرافها، أخلت بما وقعت عليه أو صادقت!

في محاولة لبتر الأهمية الشرعية لالتزامات الولايات المتحدة الأممية والفيدرالية، وجدت مذكرة عام 2002 بيد جاي إس بايي، مدير مكتب المجلس التشريعي لوزارة العدل الأمريكية، يعيد فيها تعريف التعذيب (نشرتها صحيفة النيوزويك عام 2004) فيقول: «قد تكون بعض التصرفات قاسية، وغير إنسانية أو مهينة، مع أنها لا تسبب الألم والمعاناة لتقع في دائرة الحرمان الشرعي من حماية القانون المناهض للتعذيب.. فالتعذيب يجب أن يكون ألماً يصعب احتماله، أو مساوياً للموت»، وبالمناسبة فقد استحق بايي فيما بعد، أن يصبح قاضياً فيدرالياً بترشيح من الرئيس بوش.

وعلى العموم، ليس مستغرباً أي تبرير لأي مسؤول أمريكي بعد الخطاب السرّي (واضح أنه لم يعد) المعبّر عن وجهات نظر بوش، والذي وقعه في 7 فبراير من العام 2002، يحلّ نفسه فيه من كل التزام سابق، بموجب السلطة المنبثقة عن الدستور التي تخوّله التعطيل: «..لا يمكن تطبيق أي من اتفاقيات جنيف في صراعنا مع القاعدة في أفغانستان، أو في أي مكان آخر في العالم»، وقس عليه! فهل يصبح ضرورياً التدقيق في تصريح بورتر غوس، مدير الـ«سي.آي.إيه»، في مقابلة نشرت له يوم الاثنين الماضي في «يو.إس.إيه.توداي»، وكيف أن محققي وكالته يستخدمون أساليب «فريدة ومبتكرة» للحصول على المعلومات الضرورية من السجناء، والتي هي جميعها «بحسب زعمه» قانونية، وليس من بينها التعذيب، أعيد فأقول هل يكون كلامنا تحصيل حاصل، ومن يُعذَّب سيُعذَّب بكل الطرق وتحت كل المسميات؟ أعتقد ذلك، ومع هذا سنظل نكتب ونحتج.

فكسر الأنوار الكيميائية وصب السائل الفسفوري على المعتقلين، وإدخال مصابيح الإنارة وأيدي المكانس الخشبية في المناطق الحساسة، وصب الماء البارد على السجين وهو عار، والتهديد باغتصابه، ونومه على برازه، وعزله الانفرادي دون ماء أو تهوية، وإجباره على الاستيقاظ بإبقاء حقيبة على رأسه لا يجب أن تقع ثلاثة أيام، وتقييد أذرعه إلى الخلف ومباعدة أقدامه بواسطة أربطة، ثم جره بعد تغطية عيونه بنظارات شمسية، ورأسه بقلنسوة في عز النهار، إلى ما يشبه قفص الكلاب الضيّق، بانحناء ركبه بزاوية مقدارها 45 درجة، هل يدخل جميعه ضمن الأساليب «الفريدة» والبعيدة عن «العذاب» بحسب ما جاء على لسان خليفة جورج تينت! وما تعليقنا إلا كقول أبي فراس الحمداني: أسجن وقيد واغتراب وعسرة.. وفقد حبيب! إنّ ذا لعظيم... وإن امرأ تبقى مواثيق عهده.. على كل هذا، إنه لكريم. ونحن نقول إنه لقوي، فهي الكلمة الأنسب ههنا.

والآن، لندع السجون وما يحدث فيها جانباً، فالحجج والذرائع ولا أكثر منها شرحاً وتفسيراً! فمن فكرة «الدفاع عن النفس» كمبرر قانوني لتجنب محاكمة المحقق المتورط، والمقصود بالنفس هنا هي الأمة، إلى تلخيص فحوى القصة في جملة واحدة: «وماذا تنتظرون من معتقَل سياسي؟»، إلى الاستخفاف بنظرية الاستمالة ونتائجها الأفضل و«المطبوخة» مع الوقت الأطول، والتي بات من المؤكد أن المحققين ليس لديهم استعداد للإيمان بها، لذا، فالاقتراح المنطقي يحتم علينا إقفال باب المناقشة مؤقتاً فيما يخص تقنيات الاستجواب والاعتقال المستجدة وإلى الأسوأ، وفتح وجهة ثانية قد تلقى استجابة ما، يوماً ما.. ربما!

وهي «إطلاق سراح جميع معتقلي غوانتانامو»، أجل، فما الفائدة المرجوة حقيقة من احتجازهم إلى اليوم! وأي معلومات سيدلون بها، وقد انقطعت أخبارهم عن القاعدة وما يخصها منذ لحظة اعتقالهم! وهل ما زالت إدارة بوش التي لم تعتبرهم أسرى حرب، وإنما «مقاتلون أعداء» على نفس رأيها، وبعد هذه السنوات من الوحدة والعذاب! هل بقايا إنسان تشكل خطراً على أمن أمريكا العظمى! تحقيقات غوانتانامو كانت ناقصة وما جمع منها وكان ذا شيء فهو ضئيل، حتى أن المحلل التابع لـ«سي.أي.إيه» وكان طليقاً بالعربية، وخبيراً بشؤون العالم الإسلامي، والذي تم إرساله إلى المعتقل لكتابة تقريره المباشر إلى جورج تينيت حينذاك، خلص بعد مقابلة 30 معتقلاً إلى الآتي: «إننا نرتكب جرائم حرب في معتقل غوانتانامو»، ووفقاً للعينة التي قابلها فإن أكثر من نصف عدد المعتقلين في المكان الخطأ، فهناك من تجاوز الثمانين من عمره، وهناك بالفعل من يعاني من اضطرابات عقلية، وليس من نظام عقلاني يحدد هوية من يعتقل، أو يحاكم فيُقضى له أو عليه، فما أن يقبض على الشخص، وينتقل إلى تلك البقعة النائية حتى يصبح سجيناً أبدياً، فأي عشوائية! وأي فوضى سافرة! يكفي قول مسؤول الدفاع الأمريكي مارشال بيلينجسليا: «لقد جلبنا أشخاصا لم يقدموا على فعل شيء، ولن يفيد معهم التحقيق، كما أنه ليس واضحاً إن كان غوانتانامو هو مقر اعتقال أو استجواب!»، شهد شاهد من أهلها، فماذا بعد!