في تذكر الملك محمد الخامس

TT

سألني بعضهم عن ماذا أوحت به اليّ الذكرى الخمسينية للعودة المظفرة للمغفور له محمد الخامس واسرته الشريفة من المنفى الى عاصمة المملكة، خاصة انني عشت في غمرة حدث هذه العودة بأفراحها وبهجتها وألقها. وسأقص على القارئ الكريم القصة الطريفة لهذا الحضور الذي ترك في نفسي اثرا لن يمحى طيلة حياتي.

كان من عادات العائلات المحافظة ان لا تخرج من بيوتها لتشارك في افراح الشعب المغربي المنظمة في الشوارع والساحات. فعندما علم المرحوم والدي بنبأ عودة محمد الخامس، رحمه الله، الى ارض الوطن، اراد ان يتمتع جميع افراد الاسرة بمشاهدة هذا الحدث السعيد، فاقتنى «كامرا» للتصوير من الحجم الصغير، التي بدأت تظهر على الساحة في ذلك التاريخ، وسلمها الي، وطلب مني ان اتوجه الى ساحة «تواركة» المحاذية للقصر الملكي بالرباط لأخذ شريط مصور للموكب الملكي، وهو قادم من المطار في اتجاه القصر الملكي، الذي غادره «مأسورا» يوم 20 اغسطس (آب) 1953. ولما وصلت الى «مشور تواركة» وجدته هائجا مائجا بافراد الشعب المغربي ـ رجالا ونساء واطفالا وشيوخا ـ القادمين من جميع انحاء المغرب، ليتملوا بطلعة ملكهم المفدى العائد من منفاه ظافرا منتصرا، معززا مكرما. وقد التقطت بكامرتي الصغيرة، كل مناظر البهجة والحبور التي عبر عنها الشعب المغربي، وخاصة عند عبور الموكب الملكي الظافر. وكانت لحظة لقاء الشعب المغربي بملكه العظيم والتملي بطلعته البهية، بعد غياب دام اكثر من سنتين (27 شهرا)، كانت لحظة تاريخية مؤثرة لا يمكن لاي قلم ان يصفها. ولما وقع «تحميض» الشريط عرضته امام كل افراد الأسرة، على شاشة صغيرة بساحة البيت المريني، مما ادخل على قلوبهم البهجة والسرور، اذ لم تكن التلفزة قد دخلت الي البيوتات المغربية بعد.

وتدور عجلة الزمان، وتشاء الاقدار الربانية، ان يكون هذا الشاب اليافع التلميذ بثانوية مولاي يوسف بالرباط، «بكامرته الصغيرة» حدثا تاريخيا غير مجرى تاريخ المغرب يوم 16 نوفمبر( تشرين الثاني ) 1955، وبعد مرور خمسين سنة بالتمام والكمال على هذا الحدث العظيم، يقف يوم 16 نوفمبر 2005، بصفته مديرا للتشريفات الملكية والاوسمة، راجيا من الحاضرين في الاحتفال الملكي السامي بالذكرى الخمسينية الذهبية، لهذه العودة الملكية المظفرة، ان يلتزموا دقيقة صمت وترحم على ارواح شهداء الاستقلال، وعلى رأسهم شهيد الحرية والاستقلال البطل المجاهد محمد الخامس طيب الله مثواه، الذي حمل في يده، وهو عائد من الجهاد الاصغر الى الجهاد الاكبر، وثيقة الاستقلال والحرية. فياله من شرف عظيم ويالها من صدفة الاقدار.

وكم كان اهتمامي عظيما بما سطرته اقلام المفكرين والساسة، الذي تحدثوا عن مغازي هذه الذكرى الخالدة، وعن المواقف البطولية التي وقفها الملك المجاهد محمد الخامس، صامدا امام رموز الاحتلال واتباعه. وعما حققه المغرب في عهد العاهلين العظيمين المغفور لهما محمد الخامس والحسن الثاني رحمهما الله، طيلة خمسين سنة من جليل الاعمال وعظيم المنجزات. ولكن غاب عن هذه الكتابات النيرة القيمة الحديث عن خصال المغفور له محمد الخامس، التي تمسك بها طيلة ملكه، وخاصة منها سماحته وطيبوبة قلبه. فكان من طبعه انه كلما اساء الناس اليه، احسن اليهم. فما ثبت ان قابل العنف بمثله، بل كان رجلا مسالما يواجه اسوأ المواقف بصبر وثبات وسعة صدر وايمان.

هذه الخصال الحميدة التي تحلى بها جلالته، اعترف له بها الفرنسيون الاحرار انفسهم، وتحدثوا عنها في صحفهم ومؤلفاتهم. لقد كان المتفاوضون الفرنسيون ينتظرون ولا شك من جلالته، ان يخاطبهم كتابة او شفاهيا او بواسطة المبعوثين، بعبارات نابية، لما اصابه على أيديهم في منفاه البعيد من محن واهانة واحتقار، ومن اجرام في حق اسرته الكريمة، حيث تجرؤوا على نفيه من بلاده ظلما وعدوانا، وفي عنقه بيعة شعبه. ولكنه لم يفعل شيئا من ذلك. بل بقي هادئا مسالما في مفاوضاته مع الحكومة الفرنسية بصفة مباشرة، او غير مباشرة. فكان تمسك جلالته بالخصال الحميدة والاخلاق الفاضلة، من الاسباب الاساسية في انجاح مفاوضات ايكس ليبان، وجعل المتفاوضين الفرنسيين يزيحون كثيرا من العقبات والعراقيل، الموضوعة على طريق المفاوضات. وكان ولي العهد الأمير مولاي الحسن (الحسن الثاني باني هذا الاستقلال المتفاوض حوله)، خلال هذه الفترة الحاسمة، يعمل ما في جهده لينتزع باسم والده، ومع ممثلي الاحزاب الوطنية، من الفرنسيين مطالب الشعب المغربي مطلبا بعد مطلب، بالتي هي احسن، وبكل لباقة وحكمة، من دون اضمار أي حقد او ضغينة ضد أي احد. وكما يقال: «يؤخذ باللين ما لا يؤخذ بالقوة». خلافا لما قاله الشاعر: «وانما تؤخذ الدنيا غلابا».

واكبر دليل على ذلك، هو ما قاله جلالة الملك محمد الخامس، رحمه الله، في ندائه الذي وجهه يوم 14 نوفمبر 1955 الى شعبه الوفي، وهو في طريق عودته المظفرة الى المغرب: «وعسى ان يكون رجوعنا، فرصة لرعايانا وللفرنسيين القاطنين بالمغرب، نتيح لهم فيها ان يساهموا في اعادة الثقة الى النفوس، تلك الثقة التي لا بد منها لتوطيد روابط الصداقة بينهم جميعا». وهذا هو ما دعا ايضا بعض الصحفيين الفرنسيين الاحرار، الى نعت محمد الخامس بالأوصاف الآتية:

«Charmeur et stratége politique ـ شخصية جاذبة وسياسي استراتيجي

«un homme à la hauteur de son destin»ـ رجل في مستوى الاقدار

«le juste des juste» ـ أعدل العادلين

فكان هذا كله، هو سر نجاح محادثات ايكس ليبان، التي استرجع بها المغرب ملكا واحزابا وشعبا، حريته المغصوبة، وجعلت حدا لافة الحماية، التي اصابت المغرب من سنة 1912 الى سنة 1955.

وقد ورث جلاله المغفور له الملك الحسن الثاني، رحمه الله، عن والده هذه الخصال الانسانية والاخلاق المحمدية، بدليل شهادة حية للاكاديمي الفرنسي موريس دريون، الذي تعرف على جلالته عند عودته من المنفى. حيث اكد في حديث له بأنه خلال عدة محادثات وجلسات مع جلالته، لما كان وليا للعهد، ثم لما اعتلى عرش المملكة المغربية، فإنه لم يذكر فرنسا بسوء أبدا، أو عبر عن احتجاجه لما قاساه هو ووالده رحمة الله عليه واخوته الامراء من محن الغربة وقساوة المنفى، بل كان ينظر دائما الى المستقبل بتفاؤل، وخاصة مستقبل العلاقات المغربية ـ الفرنسية، تاركا الماضي وراء ظهره، طبقا للحكمة القائلة: «ما ماض فات والمؤل غيب ولك الساعة التي انت فيها».

* مدير التشريفات الملكية والأوسمة

في القصر الملكي المغربي