الهوية القومية.. بين الإنصاف والانتقام

TT

أزعم أن أشد غلاة القومية العربية يتحفظون، هذه الأيام على الأقل، عن فكرة فرض العروبة أو التعريب على من يرفض أن يكون عربياً... حتى إذا كانت جذوره تعود إلى الأزد أو قيس عيلان.

فالهوية القومية القائمة على الغلو العنصري اضحت ظاهرة يصعب الدفاع عنها، ليس انطلاقاً من حسابات ميزان القوى المختل عالمياً ضد العرب ـ وهو كذلك حقاً ـ ، بل لأن هذا الغلو يكبل الحريات ويناقض التسامح ويطمس الثقافة ويئد التراث ويشوه التفاعل الإنساني السليم مفضياً إلى أحقاد دفينة تنتظر الفرصة المواتية للانتقام بشراسة. وها نحن نرى اليوم من المغرب والجزائر إلى العراق مروراً بالسودان كيف تتنامى النزعات الإنفصالية ضد «عروبة» كياناتها تحت ذريعتي التهميش والقمع.

«الاعتذارات» المتأخرة جداً ـ على الطريقة البابوية ـ قد ترضي البعض، وقد تخفف من وطأة سوء الظن، لكنها لا تلغي الشعور بالغبن ... بل والإذلال والقهر. ولكن من يقرأ التاريخ ويتفحص في نشوء الإمبراطوريات يجد أن كل إمبراطورية، أو دولة عظمى تجاوزت بضخامتها خطوط الفصل الإثني والديني، إنما نشأت على الفتوح والغزوات والضم... أحياناً تحت لواء رسالة دينية وأخلاقية، وفي حالات أخرى سعياً لغلبة وهيمنة دونما حاجة إلى التستر بأي ادعاء أو شعار.

وبالتالي، على امتداد التاريخ، نرى كيف عشرات الحضارات بادت بعدما سادت، ومئات الشعوب قُهرت وطمست ثقافاتها ففقدت هويتها وتحللت وذابت في محيط أوسع من محيطها الأصلي.

حتى في اوروبا، وليس فقط في أميركا اللاتينية وآسيا وإفريقيا، توجد اليوم جيوب بشرية صغيرة تصارع من أجل البقاء بعدما اضمحلت هويتها أو كادت فوق تراب وطنها، أو أخذت تتحلل بفعل «الهندسة الإثنية» التي اعتمدتها قوى كبرى فهجّرت مجموعات بشرية من أوطانها وزرعتها في أماكن بديلة لاعتبارات مختلفة.

العالم العربي الذي توحدت أجزاؤه منذ فجر الإسلام مرات عديدة في ظل إمبراطوريات كبرى، كان بلا شك منذ القرن السابع الميلادي بوتقة جبارة صهرت فيها ـ بعدما جذبت إليها ـ جماعات بشرية مختلفة من أقاصي الأرض. وتحولت عواصم الخلافة على مر العصور إلى حواضر «كوزموبوليتانية» عالمية يعيش فيها ويتفاعل الملايين من الوافدين طوعاً أو قسراً.

هكذا كانت دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة ...

وبمرور الزمن، وباتجاه معاكس استقر الألوف والملايين من الآتين من جزيرة العرب والمشرق العربي في شمال إفريقيا، وبلاد الفرس والترك والسند والهند وصولاََ إلى جنوب شرق آسيا وشرق إفريقيا وغربها، ومن ثم حملتهم الهجرات إلى أوروبا والعالم الجديد.

التمازج حصل تحت هوية... كانت تارة «إسلامية» لا فضل فيها لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، وطوراً «عربية» تكاملت مع الدين الحنيف الذي تنزٌلَ قرآنه عربياً.

لا أعراق صافية إذاً؟

حتماً لا.. لا في كل الاتجاهات. ومثلما حصلت حالات «تعريب» حصلت في فترات أخرى حالات «تفريس» و«تتريك»... ولاحقاً «أمْرَكة» و«فرْنَسة» و«أورَبة» كالتي نعيش اليوم.

هل الديمقراطية المصدّرة إلى العالم العربي كفيلة وحدها ببناء كيانات متجانسة داخلياً وقابلة للحياة والتطور؟

أعتقد أن الجواب أيضاً بالنفي. لأن الإشارات المرسلة إلى المنطقة تتعمد تشجيع فئات عدة ليست بالضرورة متجانسة إثنياً ولغوياً على الانقلاب على كياناتها، بحجة استعادة الهوية القومية المغيبة، وذلك إما عن طريق الافتعال مبتكرة أحرفا للغات محكية غير مدونة، أو عن طريق التزوير التاريخي لاستنهاض العداوات والأحقاد، او عن طريق ترويج الأساطير (Myths) لاختراع هويات وولاءات بديلة.

فاللافت أنه بينما تسعى دوائر دولية بغرض ضرب التماسك في بلداننا الى استغلال أخطاء عشائريينا المتشدقين طويلاً بـ«عروبة» لم يمارسوها، نراها تشجع حركات أخرى تركب مركب العنصرية وتستخدم خطاباً عنصرياً... لتسريع تفسيخ الكيانات الحالية التي تعيش فيها. أنا اعتقد أن احترام التميز الإثني والديني واللغوي أمر مطلوب في أي مجتمع يدّعي الحضارة، وينحو جدياً نحو الديمقراطية، لكنني أؤمن أيضاً بوجود فارق كبير بين الإنصاف والانتقام، وبين التعايش الأخوي والتآمر المبيت المنتظر فرصة تصفية حسابات عمرها ألف سنة ويزيد.