بين الدجيل وتكريت

TT

أهالي الدجيل وتكريت يمثلون المشهد العربي على حقيقته، حيث ينظر كل واحد منا الى ما يحدث حوله من نافذته. ففي مظاهرات صاحبت محاكمة صدام الماضية حمل الدجيليون المشانق له، فيما رفع التكريتيون صوره وبالدم والروح هتفوا له. الذين عانوا من جرائم صدام وفقدوا أعز الناس إليهم في عهده يؤمنون بانه لا يستحق الرحمة، أما الذين رأوا فيه بطلا يدافع عن قضاياهم العربية وعاشوا تحت حكمه في عيش رغيد فانهم يردون له الجميل بالتحية والتظاهر.

هذا هو العالم العربي الذي علينا ان نتعايش مع تناقضاته، لا ان ندعي ونكذب على غيرنا وعلى أنفسنا ان العرب متفقون في كل شيء. العرب يختلفون على كل شيء تقريبا، ولأسباب حقيقية ومبررة، كونهم يحتلون مساحة واسعة من الأرض ويتقاتلون على الماء والغاز والكلأ ككل شعوب العالم. الأوروبيون يختلفون بينهم، واللاتينيون يختلفون مع بعضهم، والعرب ليسوا بالأمة المثالية.

الذي قاد مثقفي العرب الى خرافة المصالح الواحدة الثابتة هي اناشيد محاربة الاستعمار في مطلع القرن المنصرم، ولحقت بها طروحات القومية العروبية، ثم اردفتها موشحات الحركات الاسلامية السياسية حول إحياء الخلافة الاسلامية. تاريخيا لم تكن هناك ارض واحدة تحت ادارة مركزية واحدة، حتى في ذروة الخلافة الإسلامية القوية. كان هناك مركز الخلافة، وكانت هناك أمصار دائمة التمرد شغلت معظم وقت وقوات الخليفة في إطفاء فتنها.

صدام يمثل العرب بشرورهم وبطولاتهم، واذا كان هناك من يستحق لقب «هتلر العرب» فهو صدام الذي ساط شعبه بالحديد والنار وباع بعض جيرانه الاحلام الوردية. محاكمته ستستمر مركز الجاذبية لفترة من الزمن لأنها محكمة العرب تاريخيا وسياسيا وفكريا. سيجد الجميع فيها مقعده الى جانب المدعي او المدعى عليه. ستفجر في صحافتنا ومجالسنا كل ما نتحدث عنه في العقود الأربعة الماضية. في نظر زعيم كصدام يعتبر قتل عشرة ملايين ضريبة رخيصة في سبيل وقفة عز او تأكيد على قضية، ويشاركه البعض في ان الحروب دائما ضرورة من ضرورات الحل لكل القضايا المعلقة بغض النظر عن الثمن البشري والمادي. انما الملايين من الأرامل واليتامى ومعوقي الحروب لهم راي آخر تماما. بطولات بدأت تصل الى قاعة المحكمة في بغداد التي يتسمر امامها الكثير من المشاهدين العرب غير مصدقين ان متهما بحجم الرئيس المخلوع يسمح له ان ينتقد ويهاجم ويبث كلامه حيا على الهواء لملايين الناس في انحاء العالم. منظر غريب في مكان اعتاد على سحل المخلوعين من دون ان يحق لهم ان ينبسوا ببنت شفة.

 

[email protected]