حقبة نفطية عربية مرة أخرى!

TT

يترقب العالم ماذا سوف يفعل العرب بثروتهم الجديدة التي نجمت عن الارتفاع الكبير في أسعار النفط خلال العامين الماضيين، وعما إذا كان سلوكهم السياسي والاقتصادي سوف يختلف هذه المرة عما مضى خلال السبعينيات، حينما هبط من السماء عليهم من الأموال ما لم يحدث في تاريخ المنطقة منذ بناء الأهرامات في مصر. وبشكل ما صدقت مقولة الخليفة هارون الرشيد عندما قال لسحابة عابرة اذهبي حيث شئت فسوف يأتينى خراجك، فمع كل السحب والغيوم الذاهبة والقادمة كان المطر يهطل فى مكان ينبت زرعا يحتاج حصاده وتصنيعه إلى طاقة كان لدى العرب وفرة هائلة منها. والآن يتكرر الأمر مرة أخرى، فالطلب العالمي على البترول يتصاعد، والعرض لا ينبئ التوسع فيه بقدرة على استجابة للمطالب، والاحتياطي العربي من النفط والغاز لا يزال هو مخزون الدنيا، لكي تنير وتتحرك وتنتج. ولكن المسألة ـ كما هو معلوم ـ ليست نفطا وغازا فقط، ولكنها أموال وأرصدة، وعندما تتحرك نحو منطقة من مناطق العالم قرابة 250 مليارا من الدولارات، ويصبح فى يد أفرادها ما يصل إلى تريليون دولار، وتترسمل أسواقها المالية بأضعاف قيمتها، فإن الاهتمام العالمي بالمنطقة يصبح أضعافا مضاعفة.

ولحسن الحظ أن ارتفاع أسعار النفط هذه المرة لا يأتي وسط معركة عسكرية، كما حدث فى أكتوبر 1973 حيث اختلطت القيم الاقتصادية بالقيم الاستراتيجية، ولا جاءت الثروة هذه المرة وسط ثورة وحرب، كما حدث مع الثورة الإيرانية الإسلامية والحرب العراقية ـ الإيرانية. صحيح أن الأوضاع في العراق ـ حيث الحرب الأمريكية ـ وفينزويلا ـ حيث ثورة شافيز ـ وحتى غضب الطبيعة ممثلا في إعصار كاترينا، قد ساهمت كلها في ارتفاع الأسعار، ولكن أيا منها لا يدخل في إطار مواجهة بين العرب والعالم حينما ولدت المقاطعة وشهر سلاح النفط. وجاءت الزيادة في الأسعار والثروة على عكس ما هو متوقع في الأوساط العربية التي كانت مقتنعة أن الحرب الأمريكية في العراق ما هي إلا حرب بترولية يستولي فيها الأمريكيون على النفط العراقي، ويبتزون بها النفط العربي كله، وبعد ذلك يغرقون أسواق العالم بالبترول الرخيص، فيحصلون على الفائدة، ويحصد العرب العلقم.

ولحسن الحظ أيضا، فإن زيادة أسعار النفط وثروته المتراكمة تأتي هذه المرة بعد تجربة سابقة، وبعد فرصة ضاعت لعبور فجوة التخلف، وبعد سياسات فشلت لم نكن نعرف غيرها فطبقناها. ولكن المعرفة بالعالم الآن أرحب وأوسع، فمهما قفلنا الأبواب وأوصدنا النوافذ، وسددنا الفتحات التي تأتي منها الرياح والعواصف، وأقمنا الأسوار المنيعة الحامية للخصوصية، فلم يكن هناك بد من الذهاب للعالم، وإذا لم نذهب كان العالم يأتي إلينا. وعندما جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر أصبحنا هما عالميا، وسرعان ما أصبح الهم همنا عندما امتدت يد الإرهاب إلى الربوع العربية تهز العواصم والحواضر، وتقلق الجيوش والعروش.

ومن هنا، فإن الترقب العالمي للسلوك العربي تجاه الثروة النفطية بات مضاعفا، فالسؤال ليس عما إذا كان ممكنا خروج العرب من التخلف، وإنما أيضا هل يستطيعون استخدام المال للاندماج في النظام العالمي المعاصر وليس للخروج منه. ولا يتحقق هذا أو ذاك باستعارة الأساليب القديمة التي جرى استخدامها في الحقبة النفطية السابقة والتي قامت على إنفاق الفائض على الدولة المركزية ذاتها، فكانت النتيجة حالة من الهيمنة والسيطرة على المجتمع حتى قتلت ما فيه من حيوية ومبادرة. ويبدو أن هذا هو الاتجاه الحالي في عدد من الدول العربية المنتجة للنفط، حيث تدور اتجاهات الإنفاق نحو توجيه مليارات الدولارات نحو زيادة مرتبات موظفي الدولة، والمليارات الأخرى نحو دعم البنية الأساسية، وبرامج للدولة لتشجيع الصادرات والتنمية الصناعية والعقارية.

مثل هذا السلوك كان مفهوما تماما في الحقبة النفطية الأولى عندما كانت الدول العربية النفطية تعاني من النقص في كل بنى الدولة، كما أن الطبقة الوسطى وشريحة رجال الأعمال لم تكن موجودة، أما الآن فإن هناك وفرة من هذا وذاك. وقد يكون مفهوما أيضا أن هناك حاجة لتعويض أجهزة الدولة وموظفيها والبنية الأساسية بعد سنوات عجاف من انخفاض أسعار النفط، ولكن استمرار هذا الاتجاه لن يعني سوى تثبيت أوضاع الهيمنة السياسية والاقتصادية القائمة لبيروقراطية الدولة ومن ثم تجعل من الاستحالة تحقيق الديموقراطية واستقبال الحداثة. فما جرى في الحقبة النفطية الأولى كان بناء طبقة بيروقراطية واسعة استبدت بجهاز الدولة، وعصفت بكفاءته وكفاءة العملية الاقتصادية في البلاد. وفيما عدا استثناءات قليلة فإن جهاز الدولة في الدول العربية النفطية بات يمثل العصبية المحلية المتواضعة التدريب، في مواجهة المجتمع الذى باتت تديره عصبيات خارجية وافدة. هذه الأوضاع خلقت حالة من التوتر الاجتماعي، ولد بدوره حالات من التوتر الثقافي والسياسي كانت نتيجتها ظهور مجموعة الإرهابيين. ولم يقتصر الأمر على الدول العربية النفطية بل امتد أيضا إلى الدول غير النفطية، حيث بات الريع وليس الإنتاج هو المثال الذى يتحرك نحوه المجتمع والدولة فى آن واحد. وحينما توجهت أموال النفط إلى الدول غير النفطية في شكل منح ومعونات ومرتبات عاملين وزيادة فى دخول الخدمات، فإن الغالبية الساحقة من هذه الأموال كانت موجهة نحو الدولة وبيروقراطيتها.

مثل هذا المثال لا ينبغى له أن يتكرر مرة أخرى، فالدولة العربية العالية المركزية والكثيفة البيروقراطية كانت هى أساس الدولة الاستبدادية، ومبررة وجودها، وخالقة أفكارها الأمنية والانعزالية عن العالم، وهى في النهاية التي خلقت حالات من الجمود والشلل نتيجة ضعف الكفاءة والفاعلية. وإذا كانت الدولة العربية قد استوعبت الدرس من الفرصة السابقة فإن عليها أن تفعل ما فعلته الدول الأخرى التي سارت على طريق التقدم قبلنا، حيث كان سبيلها إلى ذلك تقوية المجتمع، وإطلاق مبادرة الأفراد، وتوسيع دوائر العلم والمعرفة، والأهم من ذلك كله القدرة على الاختيار والتغيير. وببساطة فإن إنفاق الفائض النفطي أصبح عليه أن يتحول بلغة الكومبيوتر من «الهارد وير» إلى «السوفت وير»، ومن أبنية الدولة ومرافقها وموظفيها إلى كيفية استخدامها وبالكفاءة اللازمة التي تصل إلى أرقى المستويات العالمية.

ولا يجرى ذلك بالنسبة إلى داخل الدول النفطية وحدها، بل هو ممتد إلى دول الجوار والإطار الإقليمي، وفي الماضى كان الإنفاق ـ كما هو داخل الدولة ـ نوعا من توزيع الفائض لتخفيف الفجوات بين الغنى والحاجة، وتجنب الحسد والثورة والتمرد. المسألة الآن ليست كذلك تماما، فالثروة لا تدوم إلا بقدرتها على الاستثمار والتجدد من خلال العالم والإقليم، وهذه المرة فإنها تجد فرصة من خلال الاستثمار المباشر بالمشاركة مع رأس المال المحلي. فالمنطقة لم تعد تحتاج صناديق نفطية جديدة، ولا تحتاج بنوكا للمعونة، ولا منحا مباشرة للحكومات والأفراد، وإنما تحتاج فيضا هائلا من الاستثمارات والشركات الإقليمية. وببساطة فإذا كانت البيروقراطيات العربية قد فشلت تماما في تحقيق التكامل السياسي الإقليمي فإن قدرة الرأسمالية على تحقيق التكامل الاقتصادي سوف تكون كبيرة عندما لا ترفع الدولة غضبها عنها فقط، بل أيضا عندما توجه من خلالها رؤوس الأموال اللازمة، مصاحبة بسعي دؤوب نحو الاستقرار السياسي.