العراق.. ماذا عن إرهاب ذوي الثياب السُود

TT

ظهر على شاشة إحدى الفضائيات (أبريل 2003) رجل معمم يهتف ضد الاحتلال، ويحرض على حجاب النساء، معلناً أنه وكيل الصدر ببغداد. ولما اعتقله الجيش الأمريكي طالب باسترجاع كرامة عمامته التي سقطت على الأرض. وثأراً لعمامته استبدل مطلب تحرير العراق بما يثير حفيظة العوام، وهو دحرجة عمامته من قبل الجندي الأمريكي. لكن بعد تحريره من الاعتقال غاب الشيخ محمد الفرطوسي غياباً تاماً، ولم يعد يذكر اسمه لا في الصحافة ولا بالطرقات التي شغلها مهدداً ومعربداً. قيل يومها: أُخرج له ملف من دوائر الأمن السابق أسكته وغيبه حتى هذه الساعة. هناك المئات مثل هذا الشيخ دخلوا الحوزات الدينية بترشيح من النظام السابق، وشقوا طريقهم إلى الوجاهة الدينية، وأخذوا يمارسون سلطة البعث السابقة بغطاء ديني، والأمر لا يحتاج سوى عمامة وجبة، وقليل من الغوغاء.

أول عمل قامت به تلك الجماعات، المتسترة بالعمائم والجبب الحوزوية، قتل السيد عبد المجيد الخوئي والسيد حيدر كليدار الحضرة العلوية. والقصة كما يرويها المطلعون من النجفيين، أن الكليدار ضمن مهامه الرسمية كعضو في المجلس (الوطني) كان يسلم هؤلاء هدايا الدولة الشهرية سراً، فكان قتله، ومحو الأثر من أول المهام. أما قتل عبد المجيد الخوئي فيرتبط في المنافسة على الوجاهة، فالرجل كان واعداً، سبقته منزلته الدولية وفكره النير وعفة لسانه وهيبة والده إلى النجف. ورغم الإرهاب والعنف، الذي سببته تلك الجماعات للنجف ومدينة الثورة والبصرة وغيرها من مدن العراق، إلا أن أحزاباً دينية حرصت على الاستفادة منهم في الانتخابات، وفرض الشعائر الدينية على الشارع العراقي، لذا سكتت عن قتل عبد المجيد الخوئي، وعن احتلال الحضرة العلوية، وضحايا المحكمة الشرعية، وقتل النجفيين، وتغيير اسم مدينة الثورة إلى الصدر خارج القرار الرسمي، لتصبح عاصمة الأتباع جيش المهدي من ذوي الثياب السُود، يسيرونها كيفما شاءوا، دولة قائمة بذاتها. ومعلوم أن الهيمنة على أكثر من مليوني عراقي، هم سكان المدينة، وعزلهم عن بغداد لا ينتظر منها غير تجييش العصابات، وتأصيل عبادة الأفراد.

في لقاء بلندن سألت إحدى الحاضرات الرئيس جلال طالباني حول مصير دم مجيد الخوئي، مع علمها أن التحقيق قد اكتمل، لكن المتورطين مازالوا يصولون ويجولون أمام أنظار آل الخوئي وذوي ضحايا إرهاب جيش المهدي. أجاب الطالباني: لا تسألوني عن هذا الأمر بل اسألوا الائتلاف الشيعي، ويعني المجلس الأعلى للثورة الإسلامية وحزب الدعوة. هنا تأتي إشكالية غياب الدولة، وحضور الطوائف، من أن رئيسها لم يتمكن من تطييب قلوب المنكوبين بدماء أعزتهم. وأن الأحزاب الأخرى لا تتأخر من استبدال جريمة القتل بتأييد أو اتقاء شر. وإذا كان التعامل كما نراه مع دم ابن إمام الطائفة الكبير فمَنْ لدماء مَنْ لا عشيرة ونسب عال لهم، مثل اللذيّن قتلا في مقر الحزب الشيوعي العراقي مؤخراً بمدينة الثورة بسبب الدعاية الانتخابية؟

وإذا كان الأمر كذلك فهل سيلام أحد أزلام النظام السابق على رفض المحاكمة على قتل أو سلب، وأن هناك من المطلوبين بالدماء يتصدرون ائتلافات الانتخابات ويدخلون الحكومة؟ العدالة واحدة لا تتجزأ، والقتل هو القتل أمام سيادة القانون، مهما تباينت المسببات والدواعي. نعم، ممارسة تلك الجماعات ضرب آخر من ضروب الإرهاب التي تمارس على العراقيين في حياتهم اليومية، سقط بفعله المئات، وسجلت مقاتلهم حوادث ضد مجهول، مع أن القاتل مرصود ومشخص، وكان من ذوي الثياب السُود. قتلوا عراقيين بسبب سماع أغنية، أو لرحلة طلابية مختلطة، أو لعدم ارتداء الحجاب (الشرعي)، ولتهمة بتناول الخمور أو التجارة بها.

أخذت تلك الجماعات تقيم الحدود على أهوائها، دولة داخل دولة، ورغم تلك الجرائم فمنهم نُصب الوزراء والمديرون العامون، والمتسيدون في دوائر الأمن. باتت تلك الجماعات مدللة من قبل السياسيين، وأخذوا يصنفون الأتباع بإتباع الصدر الأول والصدر الثاني والصدر الثالث. لكن مَنْ يعرف محمد باقر الصدر حق المعرفة، وهو الإنسان الزاهد المتواضع، يرى أن هناك متاجرة باسمه، ولا أظن الرجل يهبط إلى مستوى الفخر بتعليق صوره محل صور صدام حسين، أو السعي إلى فرض اسمه على مدينة سلب صدام اسمها الحقيقي ليضع اسمه عليها، وهي مدينة الثورة. لم يكتف ذوي الثياب السُود بهذا بل أخذوا يفرضون اسم المهدي على اسم شارع أبي نواس التاريخي. وأخذت صور محمد صادق الصدر وولده مقتدى تسد بوابات المدن والأحياء، وما يجري تحت هيمنة الصور من مصادرة لآراء الناس.

يجري بمدينة الثورة إرهاب حقيقي، يأخذ بالرقاب، وإذلال بهيمنة الغوغاء، يتزامن مع دوي التفجيرات، والأجساد المفخخة ببغداد والحلة وكركوك. جماعات تختطف وتحرر ضحاياها لتسجل بطولة كاذبة لها، وتشترك تارة مع الشرطة في عمليات المداهمات، وتارة ضدها، ليس لها من صفة رسمية غير أنها من أتباع الصدر. استقبلت مدينة الثورة الدعاية الانتخابية باقتحام ذوي الثياب السُود الملثمين مقر الحزب الشيوعي العراقي، فقتلت عبد العزيز جاسم وياس خضير، وهما يجلسان إلى طاولة الاستعلامات، وحصل الحادث أمام أنظار المارة. لكن مَنْ يجرأ على الاعتراض أو المدافعة، فهناك كتائب من الملثمين، بعد أن سحبت الدولة يدها عن مدينة كاملة وسلمتها لهم اسماً وإدارة.

وبطبيعة الحال يتوهم المنتظرون من تلك الجماعات خيراً، فهؤلاء يعيشون عقدة الجريمة، كلما تورطوا بدماء حاولوا التطهر منها بدماء أُخر، هذا والحكومة لا كلمة لها ولا موقف؟ عاد أصحاب الثياب السُود تسليحهم، بعد أن سلموا أسلحتهم بتصميم من الحكومة السابقة أمام أنظار العالم. عموماً، هناك منافسة ليست بالخفية لكسب هذه الجماعات، والغرض استخدامهم في التهديد والإقلاق، والتأثير على سير الانتخابات، فهم جماعات متهورة لا تتأخر من تمزيق لافتة دعاية، أو عرقلة تقدم منافس في صناديق الاقتراع. وإذا كانت فاتحة الدعاية الانتخابية قتل وتمزيق لافتات، من قبل أتباع المرشحين، فكيف سيكون الحال يوم الانتخاب، وفي مناطق يجوبها ذوي الثياب السُود الملثمين؟ هذا إلى جانب الإرهاب المبرر بالمقاومة.