أي عراق بعد خروج الاحتلال؟

TT

دعا عبد العزيز الحكيم رئيس المجلس الاعلى للثورة الاسلامية الولايات المتحدة الى السماح لقوات الأمن العراقية بالقيام بدور أكبر في قتال المتمردين السّنة (صحيفة الواشنطن بوست 27 الشهر الفائت ـ نشرته «الشرق الأوسط يوم 28)، وانتقد زعيم التجمع الشيعي «التحالف العراقي الموحد» الذي يسيطر على الحكومة الحالية سياسة الولايات المتحدة في العراق التي تكبل ايدي قوات وزارتي الداخلية والدفاع، لكنه رأى ان على القوات الاميركية ان تبقى في العراق «ضيفة» على الحكومة العراقية الى ان تصبح هذه الحكومة قادرة على تحمل مسؤولياتها الأمنية.

وفي حديثه عن المقاتلين السنّة قال مستشار الامن القومي العراقي موفق الربيعي، ان المقاتلين البعثيين حولوا أنفسهم الى مقاتلين اسلاميين كوسيلة للحصول على الدعم البشري والمادي، واعتبر الربيعي ان هؤلاء اخطر من الجهاديين اتباع ابو مصعب الزرقاوي لأنهم يتمتعون بدعم اوسع من داخل العراق وتمويل من «دول الخليج العربية». في هذه الاثناء «تلطف» وزير الداخلية العراقي بيان جبر صولاغ وتراجع عن هجوم كان ينوي شنه على «المتمردين» السنّة لأن الرئيس العراقي جلال الطالباني اكد له انه التقى اخيرا ممثلين عن المقاومة السنّية العراقية وبعدما تلقى هو اتصالا من الامين العام للجامعة العربية عمرو موسى، فرأى انه لا بد من التفكير بنجاح مؤتمر المصالحة الوطنية الذي سينعقد في شهر شباط (فبراير) المقبل.

هذه التصريحات رافقها تحرك من قبل الزعيم الشيعي المتمرد مقتدى الصدر الذي استطاع تسمية 30 مرشحا من قبله على لائحة التحالف العراقي الموحد، التي يشترك فيها ابرز حزبين حاكمين، حزب الدعوة لرئيس الوزراء ابراهيم الجعفري، والمجلس الاعلى للثورة الاسلامية لعبد العزيز الحكيم. ويفسر دخول مقتدى الصدر في التحالف العراقي الموحد، الدعوة التي اطلقها الحكيم الى واشنطن كي تسمح بدور اوسع للقوات العراقية في مقاتلة المتمردين. ويدرك التحالف العراقي انه في حاجة الى كل دعم ممكن في الانتخابات المقبلة لأن السنّة سوف يشاركون بكثافة، كما ان المجموعة التي يترأسها رئيس الوزراء العراقي السابق اياد علاوي، وكذلك لائحة احمد الجلبي ستشكلان تحديا كبيرا لطموحات الحكيم والجعفري. ويحتاج التحالف العراقي الى شخص مثل مقتدى الصدر على لائحته، لأن الصدر حافظ على صورة «المقاوم للاحتلال»، رغم انه كان يتوصل في السر الى صفقات مع بغداد، وحاجة التحالف الى الصدر كونه يسمح له بالظهور بأنه (التحالف) مستقل عن الولايات المتحدة، مع العلم ان التنظيمين الشيعيين الرئيسيين يرغبان في اظهار استقلالهما عن واشنطن لمواجهة تحركات الادارة الاميركية في تقليص اعتمادها على الشيعة حلفاء ايران. وكان التحالف العراقي الموحد تلقى صدمة اخيرا مع اعلان آية الله علي السيستاني عن انه لن يدعم أي مجموعة في انتخابات 15 الشهر الجاري.

هناك قضية اخرى مع السنّة تواجه الاحزاب الشيعية الموالية لايران، برزت بعد التقارير القائلة ان قوات وزارة الداخلية المتحالفة مع ميليشيا بدر، الجناح العسكري للمجلس الاسلامي الاعلى تشرف على عنابر التعذيب اما انتقامية او تأديبية مليئة بالسجناء السنة، ودفع وزير الداخلية صولاغ الى الاعلان عن تأجيله هجوما ضد المتمردين السنة يأتي في اطار تخفيف وقع فضيحة التعذيب المشهورة، رغم انها لا تقل اجراما عن قتل كل من شارك من الطيارين العراقيين في غارات جوية على ايران اثناء الحرب العراقية ـ الايرانية، وبالطبع لا تقل ايضا عن العمليات الارهابية التي يقوم بها الجهاديون! ولكن في المقابل تكشف تصريحات الربيعي عن ان البعثيين في العراق ارتدوا ثياب الاسلاميين، بأن المسؤولين الشيعة يخططون للتخفيف من الضغوط الاميركية عليهم من اجل التوصل الى اتفاق مع سنّة لا يريدون ان يشاركوهم في الحكم.

ولكي يقضي الحكيم على المتمردين السنّة، فإنه في حاجة الى سلاح جوي، وهو رأى كيف ان القوات الاميركية لجأت في كل معاركها بدءا من الفلوجة ووصولا الى تلعفر، الى سلاحها الجوي. ولا يبدو ان واشنطن تخطط على بناء قوات جوية عراقية، بل ان تفكيرها لا يزال مركزا على اقامة قواعد عسكرية اميركية في انحاء مختلفة من العراق. ويسرب البنتاغون بأن عدد تلك القواعد التي ستبقى بعد الانسحاب من العراق سيكون اربعا، غير ان رأي الخبراء العسكريين وحسب البنى التحتية لأنظمة الاتصال التي يجري نشرها وتدل على بقاء دائم لوجود اميركي في العراق، يقول ان العدد سيكون اكثر من ذلك خصوصا لجهة الكلفة البالغة اربعة مليارات دولار.

في ظل ما يتردد ويتسرب، يقول لي مصدر غربي ان العراق ليس مشكلة عسكرية، انه مشكلة سياسية، تكمن جذورها في كون اغلبية العراقيين يشعرون بأن حكومتهم غير شرعية، وانها اتت مع الغزو والاحتلال، والقائمون على هذه الحكومة انصرفوا الى تنفيذ مخططات تؤدي الى تقسيم العراق، وتركوا الحدود مشرعة للجهاديين والنفوذ الايراني. ويعود محدثي الى التاريخ والوقائع بعد سؤاله عن الحل، فيقول: تاريخيا، ان الصراع الاساسي في منطقة الخليج كان دائما يتمحور حول المنافسة ما بين الوطنية العربية وتلك الفارسية، والامر الذي زاد من تعقيد هذه المنافسة هو ان الفرس كلهم شيعة، في حين ان الاغلبية العربية سنّة، وهناك في منطقة الخليج مناطق جغرافية ذات كثافة سكانية من الشيعة العرب، وأبرزها جنوب العراق حيث الشيعة العرب هم الاغلبية فيه، وتعيش مجموعات من الشيعة العرب في ايران وعدد من دول الخليج العربية. ويرى ان الانسحاب الاميركي على مراحل، المطروح حاليا، اذا ما بدأ تنفيذه سيقوي الشيعة العرب الذين «يتطلعون الى دولة عربية شيعية، وهذا سيؤدي الى زعزعة استقرار اوسع في المنطقة».

عبد العزيز الحكيم كرر في حديثه الى «الواشنطن بوست» دعوته الى دمج نصف المحافظات العراقية في فيدرالية في الجنوب، وقال: «ان بلده» يمكن ان يلحق الهزيمة بالمتمردين...

وفي الواقع، ان هوية وطنية واحدة تحمي كل المواطنين في ظل حكم القانون هي المخرج الوحيد لعراق مستقر، ويتساءل محدثي عن الحلقة المشتركة القادرة على جمع الاغلبية في العراق، وعن المجموعة الوحيدة التي تشترك مع بقية المجموعات اما دينيا او عبر اللغة، والتي ترتبط بعلاقات مع العالم العربي الواسع؟ ويجيب، بأن السنّة العرب هم العامل المشترك الوحيد في المجتمع العراقي، هم عرب مثل الشيعة العرب، وسنّة مثل اغلبية الاكراد «واذا لم يعد السنّة العرب كعامل اساسي في العملية السياسية، فإن العراق سيستمر في تفككه، ويجب ان لا ننسى ان السنّة العرب يشكلون مع الشيعة العرب 80% من سكان العراق».

ان الهم الاساسي للولايات المتحدة الآن هو ان تترك العراق مبدئيا، من دون ان يتحول الى قنبلة موقوتة في يد الجهاديين، لأن عراقا بمثابة قاعدة مضموعة لأسامة بن لادن وأمثاله، هو اسوأ ما يمكن تصوره، حيث ستبهت ذكرى حكم صدام والبعث، مقارنة بما سيحصل في مثل هذه الحالة.

ان التركيز في واشنطن على استراتيجية الانسحاب، دفعها الى الكشف عن اتصالاتها بطهران (آخرها عبر احمد الجلبي وجلال الطالباني)، بتكليف سفيرها في بغداد زلماي خليل زاد القيام بجزء من تلك الاتصالات، ويمكن القول ان موقف واشنطن من البرنامج النووي الايراني سيؤثر على مدى تجاوب طهران في التعاون من اجل توفير انسحاب منظم للقوات الاميركية من العراق، لكن ايران لا تريد عراقا عربي الهوية، بل كما قال مرشد الثورة الايراني علي خامنئي انه «يتوقع عراقا اسلاميا مشعا في المستقبل القريب». كما ان ايران مصرة على دور في تحديد شكل المستقبل السياسي للعراق، وكانت واشنطن وسطت موسكو لتسهيل انسحاب قواتها من العراق وللتأثير على ايران في المسألة النووية.

ربما تكون ايران مستعدة للتخلي عن برنامجها النووي في المرحلة الحالية، مقابل «استيلائها» على العراق، فالأمران لهما مفعول واحد.