موريتانيا: حصيلة شهور أربعة من التغيير

TT

احتفلت موريتانيا هذا الأسبوع بذكرى عيد استقلالها الخامس والأربعين (28 نوفمبر) في ظروف طبعتها روح التغيير الذي حدث يوم 3 أغسطس (آب) الماضي. ومن المشاهد المثيرة التي اكتشفها الجيل الجديد، الذي لم يعش حقبة الاستقلال الأولى، صورة رئيس موريتانيا الأول المختار ولد داداه الذي غادر الحكم في 20 يوليو 1978، ولم يعد له ذكر بعدها في الاعلام الرسمي.

فلقد أعاد التلفزيون الحكومي مشهد رفع ولد داداه للعلم عام 1960، معلنا استقلال البلد من أعلى الرمل الأبيض المطل على ضفة المحيط الاطلسي التي ستصبح بعدها العاصمة انواكشوط اثر الانتقال من مدينة سان لويس السنغالية التي كانت طيلة نصف قرن عاصمة للمستعمرة الموريتانية.

لم تكن صورة ولد داداه هي المشهد المثير الأوحد في المناسبة، بل ظهرت على الشاشة ذاتها وجوه كانت إلى عهد قريب ممنوعة ومقاطعة من الجهات الرسمية ومقصية من الشأن العام، سواء تعلق الأمر بزعيمي المعارضة السابقين أحمد ولد داداه ومسعود ولد بلخير، أو بزعامات التيار الاسلامي الخارج لتوه من سجون ولد الطايع مثل جميل منصور. وقد لا يصدق المرء أن كل هذه التحولات الجذرية قد حدثت في موريتانيا في أقل من أربعة اشهر هي الفترة التي مضت على الإطاحة بالحكم السابق. وليس من همنا تقويم أو استشراف آفاق هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ موريتانيا، ولكن يمكننا القول دون شك انها تمثل لحظة تحول جسيمة في المسار السياسي لهذا البلد، الذي اتسم خلال ربع القرن الأخير بكثير من العواصف الهوجاء.

ولقد ورث النظام العسكري الحالي تركة ثقيلة وأزمات حادة عصية على الحل، تمحورت حول إشكالين رئيسين يتعلق أحدهما بطبيعة إدارة المسلك الديمقراطي المتعطل، ويتعلق ثانيهما بالأزمة الاقتصادية الخانقة التي أوصلت البلاد لأفق اجتماعي مسدود.

فبخصوص الإشكال الأول، نكتفي بالتذكير أن المسار الديمقراطي الذي انطلق في مطلع التسعينات في ظرفية وصلت فيها العلاقة بين نظام الحكم السابق والقوى السياسية اقصى درجات التردي، كما عانى فيها النظام قسوة الحصار الخارجي، شكل أفقا واعدا لامتصاص الأزمة السياسية القائمة، وطريقا ناجعا لفك العزلة الخارجية.

بيد أن سنوات الأمل انحسرت سريعا، وعادت الأزمة السياسية إلى نقطة الاحتقان الشديد، خصوصا بعد انتخابات اكتوبر2001 التي أضاع فيها الرئيس السابق ولد الطايع فرصة تجديد قواعد اللعبة السياسية بالانفتاح على معارضته إلى أن أصبحت أكثر نجاعة وفاعلية بانضمام واجهات سياسية وعسكرية هامة إليها.

وهكذا ورث النظام الجديد برلمانا بلون واحد، وقيودا دستورية وقانونية وقضائية تفرغ الحقوق السياسية من مضمونها، ومعارضة مشتتة ومقموعة تراوح رموزها بين المعتقلات والمحاكم.

ولا شك أن الإنجاز الأكبر للمجلس العسكري الحالي هو النجاح في تجديد قواعد الرهان السياسي بإجماع القوى السياسية وتشكيلات المجتمع المدني، بالاتفاق معها على مراجعة القوانين والنظم المعيقة، وتشكيل لجنة مستقلة للإشراف على الانتخابات في شتى مراحلها برئاسة ضابط ووزير سابق يحظى باحترام كافة الفاعلين السياسيين (هو الشيخ سيد أحمد ولد باب مين الذي تقاعد مؤخرا من وظيفته كسفير في ابوظبي). وفي حين تكاثرت هذه الأيام الصحف اليومية المستقلة دون أدنى مصادرة أو تدخل من السلطات العمومية، تحولت وسائل الإعلام السمعية البصرية الرسمية إلى واجهة حية للحوار الحر بين القوى السياسية بما فيها أكثرها راديكالية وتطرفا، في مشهد غريب لا يزال يبهر الموريتاني العادي الذي تعود على اللغة الخشبية والدعاية التمجيدية المألوفة.

أما الأزمة الاقتصادية المجتمعية الخانقة، فلا تزال الملف العصي الذي يواجه حكومة ولد بوبكر، الاقتصادي المرموق ذا الخبرة الإدارية الطويلة الذي اختاره العسكريون وزيرا أول في حكومتهم الانتقالية. وقد عكست الأرقام المخيفة التي أعلنها ولد بوبكر عن حجم هذه الأزمة، على الرغم من وعود النفط الذي سيبدأ تصديره إلى الخارج في مطلع السنة الجديدة. وقد وضعت الحكومة عدة اصلاحات وتبنت اجراءات عاجلة لتخفيف المأزق الاجتماعي.

صحيح ان بعض الملفات الحساسة لا تزال عالقة، وليس من السهل على الحكومة الانتقالية معالجتها، كما هو حال جرائم حقوق الانسان المسجلة في عهد ولد الطايع على الأخص التي لا تزال تشكل بؤرة توتر مزمنة، بيد أن مما لا شك فيه ان القوى السياسية في مجموعها تنظر بإيجابية واضحة لحصيلة جهود حكام نواكشوط الجدد، كما ان النظام الحالي استطاع بكثير من الحصافة اختراق العزلة الدبلوماسية التي فرضت عليه أيام التغيير الأولى، فحصل على تقبل بل حماس الأطراف الفرانكفونية والأفريقية والاوربية التي أدانت الانقلاب العسكري في البداية، كما لقي تجاوبا واسعا في منطقة الجوار المغاربية والافريقية، كما ظهر خلال زيارات اعل ولد محمد فال لدول المنطقة مؤخرا، التي تتلوها زيارات مرتقبة للمشرق العربي تبدأ من السعودية.