هل للشراكة المتوسطية ـ الأوروبية من معنى؟

TT

أول ملاحظة نسجلها على مؤتمر برشلونة ليس غياب كل الزعماء العرب ما عدا الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وانما استبعاد دول عربية اساسية كالسعودية، واليمن، والعراق، والسودان، والخليج العربي كله بحجة انها غير متوسطية!! ولكن هل المانيا وهولندا وبولندا وسواها متوسطية؟ ومع ذلك فقد شاركت دول الاتحاد الاوروبي الخمس والعشرون كلها. ينبغي ان نتفق على من هو متوسطي ومن هو غير متوسطي.. فالثقافة المتوسطية تشمل كل العرب وليس بعضهم فقط.

واقصد بالثقافة المتوسطية الفلسفة اليونانية زائد الديانات التوحيدية من يهودية ومسيحية واسلامية زائد الحداثة المعاصرة. فقد اخترقت كل الفضاء المتوسطي وانتشرت في كل مجتمعاته وشعوبه. واذا كان الاتحاد الاوروبي يريد ان يحاور العرب لحل المشاكل العالقة فما عليه إلا ان يجتمع بهم كلهم. بل ويمكن ان يضيف اليهم ايران لكي تكتمل الصورة ولكي تحل كل المشاكل المطروحة على المنطقة. وهكذا يصبح الاتحاد الاوروبي في مواجهة الاسلام الشرق الاوسطي كله: اي العربي والتركي، والفارسي. وهي مواجهة تاريخية لا تزال مستمرة منذ ظهور الاسلام وحتى يومنا هذا مروراً بالحروب الصليبية، وطرد العرب من اسبانيا (الاندلس)، والصراع الطويل مع الامبراطورية العثمانية، والهيمنة الاستعمارية لاوروبا على الشرق، وانتهاءً بالصراع العربي ـ الاسرائيلي الذي هو امتداد مباشر لهذه الهيمنة الاستعمارية بالذات.

وعندما يجلس القادة العرب أمام نظرائهم الاوروبيين في قصر المؤتمرات ببرشلونة الجميلة، هل يستطيعون ان ينسوا تماماً كل هذه الذكريات المرة المحفورة في عمق التاريخ والعقلية الجماعية لكلتا الجهتين؟ وهل يستطيعون ان ينسوا انهم في موقع التلميذ والغرب في موقع الاستاذ؟

بماذا يشعر محمود عباس، او حسني مبارك، او بشار الأسد، او عبد العزيز بوتفليقة، او معمر القذافي، وغيرهم عندما يجلسون وجهاً لوجه أمام جاك شيراك، او طوني بلير، او انجيلا ميركيل او حتى هذا الانسان الرائع المليء بالنزعة الانسانية والانفتاح على العرب: ثاباتيرو؟ ولا أقصد بذلك ان الآخرين ليسوا بذوي نوايا طيبة ولكن رئيس وزراء اسبانيا يبدو لي انه أول من يريد طيّ صفحة الماضي الأليم وفتح صفحة جديدة مع العرب والمسلمين. وهذا ما تجلى بوضوح في خطابه الفلسفي تقريباً وليس فقط السياسي في القمة العربية للجزائر. فالذكريات ليست كلها سوداء بين العرب المسلمين، والاوروبيين المسيحيين سابقاً والعلمانيين حالياً. فالتبادلات التجارية والثقافية كانت متواصلة ايضاً على الرغم من كل الحروب والصدامات التاريخية.

ولذلك فان عقد المؤتمر الاوروبي ـ المتوسطي تحت شعار تحالف الحضارات» كما اقترح ثاباتيرو يبدو لي شيئاً موفقاً فالمستقبل هو للحوار والتفاعل الايجابي بين كلتا ضفتي البحر الابيض المتوسط على الرغم من كل شيء. ويمكن لحضارة قرطبة التي جمعت بين المسلمين والمسيحيين واليهود في ظل القيادة العربية ان تكون مثلا يحتذى.

ولكن هل يستطيع الغني، القوي، المتقدم ان يجاور الفقير، الضعيف، المتأخر؟ ألن يشعر الثاني منذ اللحظة الأولى بان المواقع غير متكافئة؟ ثم هل يمكن لحوار برشلونة ان يقلع فعلاً ويؤتي ثماره بدون ايجاد حل لهذه العقبة الكأداء: قصدت الصراع العربي ـ الاسرائيلي؟

من الواضح ان القمة كادت ان تفشل اكثر من مرة بسبب هذه القصة. فالخلاف على تعريف الارهاب وضرورة التفريق بينه وبين حق المقاومة ضد الاحتلال كان في صلب الموضوع وأوروبا التنويرية والحضارية لا تستطيع ان تراوغ الى الأبد فيما يخص هذه المسألة الحساسة جداً. نقول ذلك وبخاصة انها هي التي خلقتها قبل خمسين سنة ونيّف. وبالتالي فتقع على كاهلها مسؤولية كبيرة لا يبدو انها قادرة على تحملها على الرغم من غناها وجبروتها!.. واكبر دليل على ذلك الحوار الجانبي الذي جرى بين رئيس الوزراء الاسباني ثاباتيرو ومساعده كازاجوانا» والذي سمعه العرب بالغلط لان المسؤولين المذكورين نسيا إغلاق الميكرفون! فقد قال له مساعده همساً: «المشكلة هي ان الاسرائيليين متصلبون كلياً في مواقفهم. ونحن نحاول معهم منذ ستة أشهر لكي يوقعوا النص ولكنهم يرفضون. واما الآخرون (اي العرب) فهم مرتاحون وجالسون في زاويتهم قائلين: الحق على اسرائيل، نحن ليس عندنا اي مشكلة». أقنعوا اسرائيل..

من المعلوم ان مبادرة برشلونة الممتازة انطلقت بعد اتفاقيات أوسلو الشهيرة التي ولدَّت آمالاً عراضاً بحل المشكلة بين العرب واليهود. فأوسلو حصلت عام 1993، ومبادرة برشلونة انطلقت عام 1995: اي قبل عشر سنوات بالضبط. ولكن مجرد عدم حضور الزعماء العرب في هذه الذكرى الهامة يدل على ان الآمال تبخرت كلها او كادت بسبب السياسة الظالمة لليمين الاسرائيلي المتصلّب والمتطرف. فهل تستطيع اوروبا ان تفعل شيئاً لكي تلينّ مواقفه من اجل مصلحة اسرائيل ذاتها؟ فالجميع يعلمون انها لن تُقْبَل في المنطقة إلا اذا نال المظلوم والمضطهد، اي شعب فلسطين، الحد الأدنى من الإنصاف والعدل. فالعرب بعد كل ما وصلوا اليه من ضعف وانهيار وهوان ما عادوا يطالبون بالكثير.. ولكن لا ينبغي احتقارهم اكثر مما يجب. فالتاريخ مفتوح والأيام متغيرة لا تدوم لأحد.. ولكن لعل زعيم اليسار الجديد بيرتيس يدرك خطورة الوضع بالنسبة لشعبه والمنطقة ككل ويمشي في طريق السلام والوفاق.

واذا كانت اوروبا المتحدة التي تشكل اكبر فضاء ديمقراطي في العالم، وأقوى كتلة اقتصادية، وأعظم حضارة على وجه الارض لا تستطيع انت تفعل شيئاً فيما يخص قصة فلسطين، فمن يستطيع؟ بنت اوروبا التي اصبحت أقوى من أمها: أي اميركا. ولكن يبدو أن الرئيس بوش يغامر مغامرة كبرى: فهو يريد ان يربح المعركة ضد الارهاب الاصولي دون ان يقدم اي تنازل يذكر على جبهة فلسطين! فهل يستطيع يا ترى؟ أليست اوروبا هي وحدها القادرة على إقناعه بتعديل سياسته ولو قليلاً لكي تنهض الدولة الفلسطينية على قدميها ونسحب ورقة كبيرة من أيدي المتطرفين الظلاميين؟ لماذا لا يفعلها الغرب وتنتهي القصة من أساسها؟ لماذا لا يفهم الغرب مصلحته ومصلحة شعوبه؟

ثم هل يمكن لحوار الحضارات ان ينجح اذا كانت العولمة الحالية ستظل فاحشة ولا إنسانية؟ نقصد بذلك انها تزيد الغني غنىً والفقير فقراً وتعمق الهوة السحيقة التي تفصل بين الشعوب الساكنة على ضفتي المتوسط، فالشعوب العربية والاسلامية تشاهد يومياً على شاشات التلفزيون كيف تعيش الشعوب الاوروبية وكيف تنعم بكل انواع الحياة الاستهلاكية والشبع الى حد البطر.