الأغنية العراقية وسيكولوجيا الإنسان المقهور

TT

من الخصائص التي تميز الاغنية العراقية والشعر الشعبي هي مسحة الحزن والاسى التي طبعت شخصية الفرد العراقي، بحيث اصبح من الصعب ان تجد اغنية عراقية ذات فرح غامر، وان تحصل على النجاح والشهرة دون ان يطغى عليها اللحن الجنائزي الحزين. واذا كانت الاغاني هي تعبير رقيق وشفاف عن المعاناة الانسانية كالحب والكراهية والامل والحرمان، نصا ولحنا واداء، فانها في كل الحالات انعكاس للواقع الاجتماعي والنفسي والسياسي، مثلما هي انعكاس لخصائص الشعوب وثقافاتهم ووسائل فرحهم واحزانهم.

واذا كانت الاغاني متعة وطربا ومؤانسة، فانها في ذات الوقت عزاء وسلوى للمقهورين ووسيلة من وسائل التعبير عن مكنونات النفس الانسانية ولواعجها الداخلية. فعندما يغني الانسان او يستمع الى اغنية ولحن شجي، فانه يشعر بالراحة والانبساط لانها تزيل عن نفسه شيئا من المعاناة، سلبا او ايجابا.

واذا كانت الاغنية العربية عموما ذات مسحة من الحزن والالم، فان الاغنية العراقية هي الاكثر حزنا والما ولوعة ومرارة، بحيث اصبح الحزن سمة مميزة للأغنية العراقية والشعر الشعبي، الذي هو مادتها، كالعتابة والابوذية والمقام والمراثي الحسينية وغيرها، التي تعكس رواسب التاريخ والذاكرة العراقية الجمعية، من ظلم وقهر واستبداد، مثلما تعكس المحن والكوارث والحروب والحصار والمقابر الجماعية، التي خلفها النظام المزاح وما تركه من احتلال وفوضى وعنف وارهاب، عمق جراح العراقيين واجج اشجانهم. وسيظل العراقيون يبكون ويلطمون ويندبون موتاهم، ما دام هناك فوضى وظلم وارهاب، ليطهروا بها ذاتهم الجريحة.

ان هذا الحزن السرمدي الذي ينبثق من اعماق النفس الانسانية هو اعلان صارخ عن سايكولوجية الانسان المقهور الذي طبع تاريخ العراق الاجتماعي والسياسي حتى اصبح الحزن قدرا تاريخيا للعراقيين. فمنذ جحافل السلاجقة والتتر والصفويين والعثمانيين، حتى جحافل الصداميين والمرتزقة والارهابيين، الذين تركوا في كل بيت عزاء ومناحة ولطما، اصبح الحزن جزءا من الثقافة الشعبية والصوت المعبر عن هموم الناس وعواطفهم وانفعالاتهم المفعمة بالحب والالم والامل والاحباط، التي تخدم في ذات الوقت، اشباع حاجاتهم الاجتماعية والنفسية والروحية. وحين يتجاوب الناس مع هذه الاغاني الحزينة فلا يعود ذلك الى موسيقى الكلمات او صوت المغني الشجي وادائه الجميل فحسب، بل الى معاني الكلمات ومضامينها ورموزها التي يعبر بها الشاعر ـ المغني عما في نفوسهم بشكل سهل وجميل وغير متكلف. وهذا ما يجعله اكثر صدقا وعفوية ويعكس دوره واهميته الثقافية بحيث تصبح الاغاني جزءا من الثقافة وصوتها المعبر عنها. ومثلما يطبع الحزن الاغنية العراقية يطبع مراسيم العزاء الحسيني ومراثيها التي تقام في كل عام بمناسبة الاحتفال بذكرى عاشوراء، وهي ذكرى استشهاد الامام الحسين في كربلاء، حيث تستمد المراثي الحسينية منها مضامينها.

ان الحزن والشكوى والعتاب تشكل في الحقيقة قاسما مشتركا بين جميع انواع الشعر الشعبي والاغاني والمراثي الحسينية، ريفيا وحضريا، وتطبعها بطابع جنائزي. فمنذ سومر واكد ناحت عشتار على حبيبها تموز بالبكاء والنحيب وكذلك بكت زينب على مقتل اخيها الحسين بن علي. ويعيد العراقيون تراجيديا كربلاء كل عام بلحن جنائزي وهم يرددون: جابر يا جابر ما دريت بكربلا اشصار، من شبوا النار، نار اليوجرها القلب منهو اليطفيها. واليوم تبي الامهات والارامل والثكالى ويلطمن على رجالهن واولادهن واطفالهن وعلى قدرهن ومصيرهن، وهن يشاهدن تطاير الاشلاء في الهواء التي تمزقها السيارات المفخخة والتي يفجرها الارهابيون بين الابرياء في الجوامع والاسواق والمدارس والطرقات. فهل يستطيع اي مغن في ظل هذه الظروف ان يغني بفرح غامر؟! يقول الشاعر الشعبي عريان السيد خلف: يقولون غني بفرح وانا المهموم اغناي..! هكذا يتحول الغناء، الى بكاء ونحيب في جو تراجيدي ملفح بالسواد ومشحون بالالم والاستلاب.

سوسيولوجيا، الاغاني الحزينة هي احدى وسائل الدفاع عن الذات، وفي ذات الوقت، وسيلة من وسائل التنفيس التي يحاول المرء بواسطتها تجميد احزانه وتفريغ شحناتها المؤلمة خلال اجترارها والاستمرار في ترديدها، وهو نوع من الاحتيال على واقع لا قبل للمرء على مجابهته.

فالانسان المستضعف والمقهور الذي لا حول له ولا قوة لا يجد امامه سوى طريق واحد هو ان يعيد آلامه في اغانيه ومراثيه وقصصه واشعاره، في محاولة للالتفاف على الواقع المؤلم والتهرب منه عن طريق رد حالة العجز والنكوص والتعبير عن الذات نفسها بشكل آخر. ان هذه الأوالية الدفاعية هي وسيلة لتفريغ شحنات العنف والغضب نحو الداخل وليس نحو الخارج ـ الآخر، الذي هو سبب فيها، وبمعنى آخر ردها نحو الذات نفسها، لتكمن في اللاشعور. وحين تجد لها مخرجا تتسامى في صور واشكال بديلة اخرى كالشعر والغناء والبكاء واللطم، باعتبارها اشكالا لجلد الذات وحربا ضد الذات المهانة.

* كاتب عراقي