فلسطين: أسبوع الأخبار الحسنة.. لكن هل سيستمر ذلك؟

TT

هناك مقولة صحافية قديمة تقول إن الأخبار الحسنة هي ليست أخبارا. لكن في بعض الحالات فإن الأخبار الحسنة هي نادرة أو معدومة تقريبا. عند ذلك فإن من الضروري التعامل معها باعتبارها أخبارا حقيقية. وخلال الأسبوع الماضي كانت هذه هي الحال، بالنسبة للنزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي.

وجاءت أول الاخبار الحسنة يوم 25 نوفمبر، حينما افتتح محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية معبر رفح الحدودي بين غزة ومصر. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يتمكن فيها الفلسطينيون من السفر خارج حدود أراضيهم، تحت إشراف سلطة فلسطينية. وحراس الحدود ليسوا بابليين أو فرسا أو رومانا ينتمون إلى امبراطوريات قديمة ظلت مسيطرة على هذا الجزء من العالم لآلاف السنين، ولم يكونوا عثمانيين أو بريطانيين أو مصريين أو إسرائيليين، مثلما كان الحال عليه خلال القرون الخمسة الأخيرة.

لن يشكل حفل الافتتاح هذا، بالنسبة للناس الذين يتمكنون من السفر من وإلى بلدانهم في كل وقت جوا وبحرا وبرا، أي أهمية تذكر. لكن بالنسبة للفلسطينيين فإنها حدث تأخر وقوعه وما رافقه من معاناة استمرت قرونا تحت الحكم الأجنبي. ولم يكن بإمكان محمود عباس أن يوقف دموعه إلا بصعوبة. وعززت المناسبة من مصداقيته كزعيم يستطيع أن ينجز من خلال المفاوضات ما فشل الآخرون في تحقيقه عبر العنف والحرب والإرهاب.

ولم يكن الرئيس عباس هو الوحيد الذي ناضل من أجل منع انسكاب دموعه، بل حتى محمود الزهار الذي يبدو أنه نسي انزعاجه من المناسبة.

لكن الأخبار الحسنة مثل الأخبار السيئة لا تأتي منفردة.

ففي نفس اليوم، الذي تم افتتاح معبر رفح رسميا قامت فتح التي تعد أكبر الأحزاب السياسية الفلسطينية بالانتخابات الأولية لاختيار مرشحيها للانتخابات التشريعية القادمة في مناطق الضفة الغربية، والتي ستجري يوم 25 يناير 2006. وفي كل هذه المناطق تمت إزاحة أعضاء الحرس القديم المرتبط بياسر عرفات لفتح الطريق لجيل جديد من السياسيين. وعلى رأس القائمة، كان هناك مروان البرغوثي الذي حصل على 94% من الأصوات، وهو قد أصبح رمزا للحقائق المعقدة للجيل الجديد من الزعماء الفلسطينيين (هناك منطقة اختارت صائب عريقات، باعتباره مرشحها بينما تجري المناطق الأخرى اختياراتها اليوم).

وهذه علامة مؤكدة على أن السياسة الفلسطينية بدأت تتحرك بعيدا عن تقاليد النضال المسلح باتجاه الصراع السياسي من خلال إظهار الاهتمام بالانتخابات المقبلة من قبل كل الأحزاب والجماعات السياسية تقريبا. وبادر العديد من السياسيين البارزين الذين يحتلون مناصب قيادية إلى الاستقالة والعزوف عن ترشيح أنفسهم، وهذا مؤشر على أن مركز القوة السياسية في طريقه للتحول من السلطة التنفيذية إلى السلطة التشريعية.

في كل الانتخابات الأولية بما فيها تلك التي جرت في غزة، ولكن لم تتم المصادقة عليها بعد، كان النقاش محكوما بالقضايا السياسية العملية. هل تكلم هذا المرشح أو ذاك عن الحكم السوي والمحاسبة والتعددية وسيادة القانون والتطور الاقتصادي والعدالة الاجتماعية. وأولئك الذين دخلوا السباق مع خطاب قديم يستند إلى العنف والحرب والانتقام لم يلق التأييد من الجمهور. وأظهر الفلسطينيون أنهم يشاركون رؤية الملك السعودي عبد الله، التي ترى أن أسلوب الاستعراض قد حان وقت انتهائه. يحتاج الفلسطينيون مثل العرب الآخرين سياسات مبنية على الصبر والدأب والتقدم. وأكثر الأخبار الحسنة القادمة من الجبهة الانتخابية عكستها استطلاعات الرأي الحديثة. وهذه تظهر أن الفلسطينيين مثل اخوتهم العراقيين يرون الانتخابات حاجة أساسية لحياتهم، وبذلك هم يثبتون خطأ وجهات النظر الجديدة التي تنتمي إلى تيارات الإمبريالية الجديدة المتلفعة بغطاء تعدد الثقافات والتي ترى أن العرب غير قادرين ولأسباب وراثية، على أن يبنوا نظاما سياسيا تعدديا.

أشارت نفس نتائج الاستطلاعات الى ان البرلمان المقبل سيكون به اغلبية من الاوجه الجديدة والأعضاء المستقلين. ويتوقع ان تحصل حركة فتح على حوالي 39 في المائة من الأصوات، فيما يتوقع ان تحصل حركة حماس على حوالي 20 في المائة من الأصوات غالبيتها في قطاع غزة. وجاء قرار حركة حماس الخاصة بالمشاركة في الانتخابات في مواجهة ضغوط قوية من العديد من الجهات التي طالبت بالمقاطعة بما في ذلك طهران.

من المتوقع ان تظهر مؤشرات ايجابية عشية الانتخابات، ذلك ان مئات من الاشخاص، بمن في ذلك فريق بقيادة الرئيس السابق للبنك الدولي، جيمس ولفينسون، يعملون على وضع غزة في طريق يفضي الى النجاح والاستقرار. ففتح الأسواق الخارجية، بما في ذلك الأسواق الاسرائيلية، أمام البضائع والقوة العاملة الفلسطينية سيساعد المرشحين المعتدلين في انتخابات يناير المرتقبة.

وللتأكيد على دفع الحركة في الجبهة التجارية، من المقرر ان يستضيف رئيس الوزراء البريطاني توني بلير بلندن اليوم مؤتمرا اقتصاديا ثانيا حول فلسطين، اذ من المتوقع الإعلان عن مشاريع بقيمة 2.4 مليار دولار في صورة استثمارات خارجية في مجالات تكرير المياه والإسكان والطرق ومنشآت الموانئ. وستوجه الدعوة لمستثمرين أجانب للمشاركة في تطوير موارد النفط والغاز والسياحة. احتمال ظهور غزة كدبي ثانية او سنغافورة أخرى في المنطقة ربما لا تزال تبدو مستحيلة، إلا ان الأمر المهم هو ان يكون المزيد من المعنيين على استعداد لتحقيق هذا الحلم.

ترى، هل يمكن ان نجرؤ على إدراج قرار خروج شارون من حزب الليكود في خانة الأخبار السارة فيما يتعلق بالمسألة الفلسطينية ـ الاسرائيلية؟

اعتقد ان الوقت لا يزال مبكرا للقطع باعتبارها اخبارا سارة، إلا ان الأمر المؤكد، هو ان شارون مصمم على المضي قدما في سياسته الرامية الى «الانفصال» الكامل بين اسرائيل والفلسطينيين. هذا الهدف يمكن تحقيقه من خلال صيغة الحل القائم لإنشاء دولتين فلسطينية واسرائيلية الذي طرحه الرئيس الاميركي جورج بوش. وتشير نتائج استطلاعات للرأي الى ان سياسة «الانفصال» التي يعمل من أجلها شارون تؤيدها اغلبية كبيرة وسط الاسرائيليين. وعلى أية حال، فإن الكثير من الذين انتهت العلاقة بينهم بالانفصال تنشأ بينهم علاقة جيدة كأصدقاء، وليس هناك ما يمنع ان يحدث ذلك بين اسرائيل والدولة الفلسطينية المستقلة مستقبلا.

ويمكن القول ان الأنباء السارة الأكثر اهمية تجسدها حقيقة اخرى. فلأول مرة منذ عقود تبدو فلسطين بصدد تحرير نفسها من قبضة الذين حولوها الى قضية باسم القومية العربية او التطرف الاسلامي. تعمل فلسطين الآن لأن تصبح قضية في الحياة الواقعية الحقيقية التي تتعلق ببشر حقيقيين في ارض الواقع ويعيشون في مخيمات لاجئين وقرى ومدن حقيقة ويعانون من فقر وكل وإذلال حقيقي. فلسطين لم تعد «قضية» مجردة يلوح بها القوميون او الاسلاميون والساسة الآخرون المتعطشون للسلطة من القاهرة ودمشق وبغداد وفي الآونة الأخيرة من طهران.

هؤلاء الذين حولوا فلسطين الى قضية ـ من الجامعة العربية الفاسدة خلال عقد الاربعينات من القرن الماضي، الى الناصريين خلال عقد الخمسينات والستينات وأنصار الاتحاد السوفيتي السابق والبعثيين من عقد الستينات الى عقد التسعينات، بالإضافة الى الذين قدموا في وقت لاحق مثل الخمينيين، فهؤلاء لم يجلبوا سوى الهزيمة والتشرد والموت للفلسطينيين.

ويبقى القول ان اسبوعا واحدا من الأخبار السارة، التي تجد الترحيب لا يمكن ان يمحو عقودا من الأخبار السيئة خصوصا في منطقة الشرق الاوسط. رغم ذلك فإن هذه اللحظة تستحق ان نشعر حيالها بالارتياح والتفاؤل والإبقاء على الأمل حيا. من المقرر ان يستضيف الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد مؤتمرا في فبراير المقبل، حول «القضية الفلسطينية». لحسن الحظ ستجرى الانتخابات الفلسطينية قبل انعقاد هذا المؤتمر وستكون رسالتها واضحة: لا تتدخلوا في شؤوننا! حقبة العنتريات انتهت.